|
مقالات الفلسفة الاغريقية في السياسة والدولة .. الجزء الاول
قرطبة الظاهر
النظرة إلى الحياة والدين والتنافس الطبقي كان الاغريقيون في القرن الثالث قبل الميلاد يعيشون نظاما ديمقراطيا تحت قائدهم الديماغوغي (الديماغوغية تعني قيادة الشعب) بَريكليَس (443 - 429) الذي امر شعبه ببناء سور حول مدينة أثينا لصد المواجهة العنيفة من سبارتا خلال الحرب البيلوبونية بين سبارتا واثينا التي اجتاحت البلاد الاغريقة في عام 431 ق.م. ودامت اكثر من 26 عاما... كان في ذلك الوقت الفيلسوف سقراط (470 - 399) ينتقد السلطة ولم يكن يعتبر الارخونت (ارخونت = درجة وظيفية عليا في الدولة) بَريكليَس قادرا على إدارة دولته. عندما خسرت اثينا الحرب البيلوبونية تسلم ثلاثون ارستقراطيا في عام 404 ق.م. تحت حماية سبارتا مقاليد الحكم في الدولة الجديدة ووضعوا نظاما سياسا اوليكارخيا اسموه "الثلاثون طاغية". كان من بين هؤلاء الثلاثين عم وخال أفلاطون، كريتياس و خارميدس اللذين حاولا اقناع الاخير ان يسلك الخط السياسي ويكون ارخونتا. إفلاطون ، ذلك التلميذ الذي كان اسمه الاول اريتوكليس وينتمي لاسرة رفيعة ومتنفذة في اثينا ، أصبحت حياته بعد تعرفه على استاذه سقراط متغيرة تماما عمّا كانت عليه سابقا ، عندما كان والده أريستون استاذه الاول في تربيته وتعليمه لفنون القيم والتعامل الاجتماعي في ظل الطبقات الارسطقراطية الرفيعة. إلتقى افلاطون بسقراط في السن العشرين من عمره أي بثماني سنوات قبل وفاة سقراط. عندما أُرجعَ النظام الديمقراطي لاثينا في عام 399 ق. م. عارض إفلاطون هذا النظام ووقف إلى جانب استاذه في محاكمة الاخير بتهمة إفساد الشباب ومناهضة الالهة واختلاق آلهة جديدة. منذ ذلك الحين اعتبر إفلاطون النظام الديمقراطي غير لائق وغير مُجدٍ وعمل على إيجاد أو اختلاق أنظمة بديلة عادلة. إقتنع افلاطون بان عليه ان يؤسس اولى المدارس لتعليم الاجيال الاولى في تربية وتنمية الفكر والقيم والمبادئ الانسانية وعلوم الاخلاق وفنون ادارة السياسة. فأسس المدرسة الثانية وهي الاكاديمية الافلاطونية. وانطلق منها باحثا عن مفهوم العدالة التي انتقصت من اعظم اساتذته وهو سقراط وكلفته حياته. إذ من خلال سقراط ومن خلال فكره انطلقت الفلسفة الاولى في فضاء حرية الفكر وتحرره من القيود والضغوط الاجتماعية والدينية. إنها مدرسة سقراط الاولى التي اخذت مشوارها في مكان يتوسط المدينة (polis) ويشكل هذا المكان السوق وسط المدينة (Agora) التي كان الشعب آنذاك يجتمع فيها. هذه كانت الجمعية الوطنية الاولى في التاريخ. فكل السياسة إنطلقت من هذا المكان وكل الخطب والاحاديث والحوارات حول من سيغزو البلاد ومن سيتقلد الحكم ومن سيفرض الضرائب ومن سوف يُعدم او يُعاقب كل هذه الامور أُوجِدتْ في وسط المدينة. لذا فان كلمة سياسة في اللغة الانجليزية (politics) يعود مصدرها إلى المدينة الاغريقية (polis). ولان المدينة تشكل في جوهرها ومظهرها طابع التمدن فان السياسة لدى الاغريق لا تشابه سياسة الدول الحالية وانما تعني "كل ما يخص المدينة او الحياة المدنية". والسياسة لدى الاغريق لم تكن سياسة دولة politics of stateلها أرض وشعب وسلطة وانما سياستهم انطلقت كسياسة أفراد او مواطنين politics of citizens. المدينة هي هويتهم وهي ايضا دستورهم. فالمدينة في ذلك الوقت كانت عبارة عن رابطة افراد وليست دولة ذات حدود واقاليم معينة ومخططة ومحددة. وايضا تسمية هذه الدولة لا تتطابق مع تحديد الارض. فأثينا لم تكن أثينا الدولة كارض او مساحة وانما تسمى على افرادها مدينة الاثينيين لان المدينة كما اسلفت القول هي عبارة عن رابطة افراد وليست مساحة ارضية محددة territorial state. وفي هذه المدينة كان الاغريقيون يفرقون بين الحياة العامة اي بين الحق العام والحياة الخاصة اي الحق الخاص. فعندما نعلم بان الاغريقيين هم من ابتكر حق الاقتراع والترشيح وهم الذين اسسوا قوانين المساءلة وحق القاء الخطب السياسية وحق الشكوى و رفع الدعاوى فعندذاك سنعلم ايضا بان كل فرد في مجتمعهم كان عضوا في الجمعية الوطنية وكل فرد كان يمتلك الحق بان يكون قاضيا في مجلس القضاة فأن ذلك بلا شك إنجازٌ عظيمٌ في فن إدارة الدولة. الاغريقيون هم الذين اخترعوا السياسة لان حنكة التصرف وتسلم المسؤولية وحرية الاختيار وقيمة الفرد هي من ابتكاراتهم. السياسة تعني لهم التصرف تجاه الاخر والتحاور مع الاخر وهذان الامران يستوجبان الاكتشاف اولا. فطالما لا يمتلك الانسان المسؤولية وانما يعتمدها على القوة الالهية او على المصير فلن يستطيع ان يتخذ اي قرار سياسي ولن يكون له اي خيار آخر. وعندما تتكون السياسة من أوامر و تنفيذ لن يكون هناك اي قرار إجماعي او مسؤولية تؤخذ بالاجماع. ولان الاغريقيين إتخذوا من فن الخطاب والتحاور نقطة انطلاق في مفهوم السياسة استنتجوا بعد ذلك بأن الخطاب والتحاور قد خلقا مفهومين جديدين وهما الظلم والعدالة. واصبح هذان المفهومان هما القاعدة الاساس لتكوين السياسة بعدما كانت السياسة معتمدة على المساواة بين البشر. لقد اصبح الان للسياسة ميزان وهذا الميزان هو ايضا من اكتشاف الاغريقيين. وخير الامور السياسية يستوجب الحلول الوسطى اي تعادل كفة الميزان (hybris) ويعني ذلك للاغريقيين بان عليهم التوازن بين الظلم والعدالة من خلال الحكمة او العقلانية في فن التحاور واتخاذ القرار المناسب والصائب والشعور بالمسؤولية تجاه بعضهم البعض. وتؤخذ السياسة بمعايير معينه في التنافس الفكري والارتقاء لاعلى منزلة (excellence) امتيازية في التعليم وفن الحوار والتعامل والتصرف الفردي. كل هذه الامور تطبّعتْ وتجذّرت في واقع وحضارة المجتمع الاغريقي وفي كتب واساطير هومر وثوكيديدس. ففي اساطير هومر تتجسد حنكة تصرف الانسان بانه ليس لعبة كروية بين أيادي الالهة وتستمر هذه الحنكة لترتقي إلى مصاف المسؤولية في إتخاذ القرارات السياسية المناسبة في حقبة سولون لتستقر في أكتشاف المؤرخ ثوكيديدس لعقلانية التصرف. في القرن الخامس قبل الميلاد تطور فن الحوار إلى فن الالقاء (rhetoric) وفن الاقناع (peitho). وبهذا تقدم وتطور مفهوم السياسة إلى مفهوم التحاور وفن الالقاء والاقناع. فالتحاور هو تبادل الاراء فالرأي قد يتحول إلى قناعة أما التحدث عن حقائق معينة فهو امر غير مجد لان الحقيقة هي تحصيل حاصل غير قابلة للتغيير. بالرغم من ان المدينة كانت تشكل رباطا دينيا بين كل اهاليها لم يكن هناك نظامٌ ثيوقراطيٌّ في اثينا. فالالهة هي ايضا من اكتشاف الاغريقيين وبالاخص من قبل هومر وهيسيود. لكنها لم تمثل ديانة لدولة او ديانة لشعب حتى لو أعتمد جبل الاولومب والالعاب الاولمبية كاحتفالية شعبية لذكرى الالهة او هيرقل دلفي كمؤسسة إلهية. لم يكن هناك أيُّ كهنة في اثينا. ولا توجد علاقة عميقة ووثيقة بين الفرد والاله مثلما هو في الاديان السماوية. يقول هيسيود أن "الالهة والبشر خلقوا من أصلٍ واحد". وبالرغم من أنَّ الالهة قياسا بالبشر اكبرحجما ويمتلكون قوة اعظم من قوة الانسان لكنهم يملكون صفاة البشر ولا يتميزون كثيراً عنهم. بل انهم بشر ويمتلكون صفات البشر بحيث أصبحوا محط إنتقاد من قبل الفيلسوفين إفلاطون وكسينوفانيس. وكان نتاج المظهر البشري للالهة هو عدم وجود الاله الاعلى في السماء ولا يوجد من يمثل هذا الاله على الارض. كما ان هذه الالهة لم تخلق الانسان ولم تخلق الكون ولا تعلم بكل شئ بل انها تحارب وتقاتل من اجل مصيرها. لكنها تمتاز بصفة لا تشابه البشر وهي انها شخوص ازلية لا تموت. فوق كل ذلك يبقى الاغريقيون القدماء رياديين في فن التنافس من أجلِ الاحسن والاعلى والاقوى والافضل في الطبقات الارستقراطية. واصبح هذا التنافس من الفضائل التي يمتازون بها. والفضيلة (arete) تعني لديهم ما يستطيع كل انسان فعله، ما يمتاز به الانسان و هي المهارة. والاخيرة اصبحت فيما بعد القياس الاساسي في تحديد قدرات الانسان في الحضارات الغربية. ومع ذلك استطاع المجتمع الاغريقي ان يحافظ أو بالاحرى أنْ يتجانس ويتعايش مع التناقضات بين الطبقة الارستقراطية والطبقة غير الارستقراطية، بين التنافس والتعايش، بين الارادة للانجاز واحترام والالتزام بالمساواة وبين السعي لتكوين الشخصية واحترام وتقييم الحياة الاجتماعية في المدينة. وقد نجح الاغريقيون من خلال ديمقراطيتهم ان يؤسسوا فيما بينهم منظومة حيوية إجتماعية وسياسية واقتصادية تصب في نهاية المطاف في المنفعة العامة وفي نمو المدينة وتقدمها الحضاري والانساني.
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@brob.org |