|
مقالات الفلسفة الاغريقية في السياسة والدولة .. الجزء الثاني
قرطبة الظاهر
الديمقراطية في أثينا: نشأتها ومؤسساتها ذكرت في الجزء الاول أن الاغريقيين كانوا يتنافسون فيما بينهم للحصول على أعلى القيم الانسانية والحضارية وهكذا كان الامر بين سكان أثينا وبين سكان سبارتا. فأول من أسّسَ النظم الديمقراطية وعمل على تدوينها وتشريعها في أثينا هو الإصلاحي سولون في عام 593 ق.م وبعده كلايسثينيس في عام 507 ق.م. إتخذت الديمقراطية طريقها الاول في النضوج بعد الحروب ضد الفرس والانتصار عليهم في سلاميس عام 480 ق.م. فقد كانت هذه الحروب لا تُعدُّ هزيمة بشرية ومادية للعدو فحسب ، بل إنها كانت في نظر الاغريق إنتصار الأحرار على الأشرار، الضعفاء على الاقوياء، العبيد على المعبودين. لقد كان إنتصار الديمقراطية على الطغيان والعبودية. هكذا وصفها المؤرخ هيرودوت ويقول: "أثينا كانت قبل ذلك مدينة كبيرة لكنها اتسعت عقب تحررها من الطغاة". وهنا لا يعني انها اتسعت مناطقيا او جغرافيا بل يقصد نضوجها السياسي وإزدهارها الاقتصادي. والديمقراطية ولدت تدريجاً خلال صراعات سياسية وحربية حول موضوعة المساواة (isonomy)، أي الحق للجميع، بين القوي والضعيف، بين الارستقراطي والفقير، ثم ازدادت مطالب الفئات المعدومة لحقوق اكثر كما وصفها المؤرخ هيرودوت ويقول:"لقد اصبح الاثينيون اقوياء و حق حرية الكلمة اصبح امرا مشروعا للجميع (isegory) وهو في كل الاحوال أمرٌ ذو قيمة عالية". ولا ينتهي الامر لدى اهالي اثينا بهذين الحقين فحسب، بل انهم طالبوا ايضا بالحق للجميع في حكم الدولة (isocracy). تبدأ الديمقراطية كنظام حكم الافراد أو الشعب عندما ينتهي حكم الفرد أو الطاغية أو الأرستقراطيين. ترتكزُ مُفردةُ الديمقراطية دائما على نظامٍ مبنيٍّ على المساواة. إنبثقت مفردة الديمقراطية عقب الحرب البيلوبونية حوالي عام 430 ق.م. وتبيّنُ مدوّنات المؤرخ هيرودوت إستخدامه لمفردة الديمقراطية في العديد من كتاباته. مصدرٌ آخر يبين تعامل الاغريق مع الديمقراطية في أحد أشعار ثيسيوس المادحة للقائد بريكليس في 13 سطرا يطالبه فيها بالمساواة وحرية الكلمة وحق المشورة والشورى وتدوين القوانين خطيّاً. لقد وجد علماءُ الآثار العديد من الاسماء التي تدل على انتصار مفردة الديمقراطية في ذلك الوقت مثل أسماء أُطلقتْ على بعض السفن الحربية أو البشر. وغالباً ما أعتادت العوائل النبيلة على أنْ تحملَ اسم العائلة "ديموس" كدليل على ولائها للنظام الجديد. وفي الثلث الاخير من القرن الرابع قبل الميلاد أصبحتْ الديمقراطية مُقدّسة وارتقت إلى مصاف الالوهية، والآلهة "ديموقراطيا" التي يتوسط تمثالها المدينة خير دليل على ذلك. لا تنحدر الديمقراطية من خطة معينة او من برنامج سياسي معين ولم تكن نتاج نظرية سياسية بل أنها نشأت ديالكتيكيا وعن طريق الصدفة كما فكّرَ وخمّنَ ونظّر الفيلسوفان المفكّران هيغل Hegel وكانت Kantفي كيفية نشوء التحضّر والتقدم ديالكتيكيا. لكن ما هي العوامل التي تسببت في ولادة الديمقراطية؟ هناك العديد من الاسباب أولها فقدان الملك القوي أي السلطة المركزية كما أوضح ذلك هومر في قصصه. وسبب أخر هو نظام الطاغية، أو الحاكم الاوحد ألذي أضعفه فقدان مواليه من الطبقة النبيلة. نظام الطاغية او نظام الفرد الواحد (Tyrannis) هو نتاج صراع في طبقة واحدة وليس بين عدة طبقات من المجتمع وهي طبقة النبلاء وانبثق في القرن السابع قبل الميلاد. أي أنَّ نظامَ الفرد الواحد يتصدر ويسودُ على نظام أو حكم الاغلبية أو الشعب. بمعنى آخر، حكم الطغاة هو من يدفع في غالب الاحيان إلى توليد الديمقراطية عندما يبدأ الصراع على السلطة ويتأجج حتى بلوغ مرحلة سفك الدماء. فنظام الطاغية ينتهي كما يبدأ عنيفاً دمويا وبقوة السلاح. لقد أضعفَ النبلاءُ قوّة الحاكم الاوحد وتراجعوا عنه حتى أسقطوه عندما اكتشفوا أنَّ منافعهم الشخصية والذاتية في تلاشٍ بسبب جبروت وصلاحيات الحاكم الاوحد المفرطة. نشأة الديمقراطية كذلك ترتبط بنظرة الاغريقيين للحياة إرتباطا قويا وشعورهم العميق بالتوازن والقياس. إنَّ إدراك الخطر تجاه الإفراط والوعي الذي يمتلكونه و تجاه الموت والخلود ساهم وأثرَّ بشكل فعال على كتاباتهم للتراجيديا والتأريخ والشعر. كما أثّرت المشاركةُ الفعّالةُ للإغريق في الحروب جنبا إلى جنب والاعتماد على الاخر في الصد ومواجهة العدو وبناء الاساطيل الحربية.. أثّرت هذه الامور في إنبثاق الوعي الديمقراطي. فمن يُفدي نفسَهُ لوطنه من حقه أنْ يكونَ مواطناً لمدينته أي له كل الحقوق والامتيازات. واخيرا إصلاحات سولون وكلايسثينيس هي التي أدّت إلى ظهور عصر الازدهار والتقدم المدني في أثينا والمساواة بين جميع أفراد الشعب. أصبحت الديمقراطية جذّابة بهذا الشكل لا لأنها أعقبت الارستقراطية والحضارة الالوهية (agonal culture) حسبُ ، بل لأنها وريثة هذه الطبيعة السياسية والدينية والدنيوية واصبحت الرباط الذي يربط قيم المساواة والشراكة مع الصراع والتنافس والامتياز. كما ذكرنا في الجزء الاول بأن الجمعية الوطنية (ecclesia) هي اول مؤسسة ديمقراطية في التاريخ والتي كان اعضاؤها جميعا اهالي اثينا. فكل منهم كان له الحق بالادلاء برأيه. وفي بداية كل جلسة يطرح رئيس المجلس السؤال: "من يريد التحدث؟". وتعقد الجمعية الوطنية اجتماعها في وسط المدينة او على هضبة تبعد 400 متراً عن وسط المدينة. وكان هناك مكان ل6000 مواطن يجلسون بطريقة نصف دائرية. ويتم التصويت عبر رفع الايدي كما هو الحال في البرلمانات الحالية. لكن ما يميز الجمعية الوطنية عن برلمانات الدول الديمقراطية هو انهم لم يتركوا شيئا بدون تصويت كي يصبح قانونا. فقد تعالت الاسئلة حول ما لم يتم التصويت عليه في جمعية اثينا الوطنية اكثر من الذي تم التصويت عليه. وكانت هذه المؤسسة مرتبطة بمجلس ال500 (Boule) يحكم كل 50 منهم لمدة 36 يوما فقط، بعد ذلك يتم استبدالهم بخمسين آخرين. هذه المؤسسة هي مجلس شورى الجمعية الوطنية. فالجمعية الوطنية تصوّتُ على مشورة هذا المجلس. وبهذا تتكون صلاحيات هذه المؤسسة من تحوير وتغيير مسار الارادة الشعبية حسب متطلبات المصلحة العامة للدولة. كل يوم يختار المجلس رئيساً له وبنفس الوقت يكون هذا الشخص رئيسا للجمعية الوطنية. الاختيار اليومي هو أحدُ أسباب عدم قبول الاغريقيين على تكثيف السلطة ومركزيتها لمدة طويلة. من أهم صلاحيات هذا المجلس حمايةُ الامور المالية والرقابة على الاجهزة والقنوات المالية. وأهمّ أداة يملكها هذا المجلس في أمور الاختلاس او السرقة او الفساد الاداري او خيانة الوطن أو محاولة انقلاب هي رفع دعوى سياسية ضد الجناة (eisanglia). ويستطيع المجلس أو الجمعية الوطنية أنْ يقررا مصير الجناة لكن في كثير من الاحيان يقوم المجلس بقبول الدعوى او نقضها. بين الاعوام 492 و 322 نُفّذت 34 دعوى ضد قادة عسكريين و قادة سياسيين. أما المؤسسة الثالثة فهي المحاكم الشعبية او الجمعية القضائية ويعمل فيها اكثر من 6000 مواطن فوق سن ال30 عاماً يُصبحون قضاة عن طريق القرعة سنويا. ويشكل هذا العدد خُمس مواطني المدينة. لم يحظَ أيُّ نظام ديمقراطي في هذا العالم بهذا الكم العددي الهائل في المشاركة الفعّالة والمباشرة بنظام الحكم كما هو في أثينا. و تتضمن صلاحيات القضاة النظر في الشكاوى والدعاوى وإستدعاء المُشتكى عليهم ثم إقرار نوع العقوبة و قراءة الحكم وتنفيذه. لم تكنْ لدى ديمقراطية اثينا أيّة مدارس للقانون أو دراسة النظم القضائية. كان الشعبُ قاضياً على نفسه وكان حاكماً لنفسه. ما يميّزُ هذا النظام هو الحرص على المصلحة العامة. فالايتام مثلا كان يُنظر لهم على أنّهم أبناء المدينة وبذلك يخضعون لمسؤولية الجميع. من اهم خواص الديمقراطية في أثينا وهي من ابتكارات مواطنيها الطعن في شرعية القوانين. فمن حق الجمعية القضائية إلغاء قرارات الجمعية الوطنية في حال وقوع تباين او اختلاف في شرعية القوانين. فالحق (nomos) الذي اعتبره أفلاطون كأمر ربّاني أو إلهي تحول إلى قانون وضعي. في عام 403 ق.م. أستحدثت مؤسسة لوضع القوانين بعد التصويت عليها من قبل الجمعية الوطنية. وكان لكل مواطن الحق في الطعن ورفع الدعوى ضد قرارات الجمعية الوطنية. من خواص ما إمتازت به ديمقراطية اثينا هي الوظائف الادارية ورقابتها. وحسب معلومات أرسطوطيليس كان هناك 700 درجة وظيفية في أثينا في القرن الرابع قبل الميلاد. وإذا احتسبنا اعضاء مجلس الشورى ال500 فان اثينا تضم 1200 موظفا حكوميا، اي 5% من مجموع تعداد نفوس الشعب. كان كل موظف يعمل حسب المبدأ: إعمل بأستقلالية، إعمل حسب القرعة واعمل بالتناوب. وقبل أن يتقلد أي موظف وظيفته او الدرجة الوظيفية يخضع للامتحان الوظيفي وخاصة إذا كانت دورته الوظيفة تستغرف اكثر من 30 يوما. ويتضمن الامتحان أسئلة في القوانين والولاء للدولة وحسب معلومات أرسطو يتم جمع المعلومات عن كل من يتقدم للحصول على هذه الوظيفة بخصوص أصله وعائلته وإلتزاماته الاخلاقية والدينية ومعاملته تجاه والديه وواجباته الضريبية والعسكرية. كل هذه الامور تدل على تسيّس الحياة العامة في مدينة اثينا. واحدة من اهم ميزات ديمقراطية اثينا هي نظام المُساءلة. هيرودوت ذكرها في احدى خطاباته فيما يخص الدستور كرمز من رموز الديمقراطية. والمساءلة تستهدف كل الموظفين في أثينا وتتم عبر مؤسستين: الاولى أمام لجنة المساءلة والثانية عَبرَ مجلس الاعضاء العشرة التابع لمجلس الشورى. بعد التحقيق في المساءلة ترفع كل القرارات إلى الجمعية القضائية. ومن حق كل مواطن في أثينا أنْ يُطالب بمساءلة الموظفين في الدولة عبر رفع طلب للجمعية الوطنية. هكذا كانت ديمقراطية اثينا التي لم تترك شيئا للصدفة بالرغم من كينونتها العفوية. لكن بقيت هذه الديمقراطية في موضع سخرية واستهزاء من قبل الفلاسفة العظماء مثل أفلاطون وأرسطو. فقد وصفها افلاطون بانها حالة عبثية غير منضبطة وفاقدة للشدة والقوة والصرامة وغير نظامية فهي صورة مشوّشة. أما أرسطو فقد اعتبرها من النظم المعطوبة لانها بالنسبة له كانت تُعتبر نظاماً للفقراء من أجل مساواتهم مع الاغنياء. ويبقى الشجار حول الديمقراطية الاثينية قائما لحد يومنا هذا. فإنها كانت تُخبّئ في طياتها العديد من المخاطر لكونها أعطت للشعب صلاحياتٍ مطلقةً في تقرير المصير وكانت مُعرّضة دائما لمخاطر الديماغوغية كما وصفها ثوكيديديس وأفلاطون. بالاضافة إلى حق الشكوى كان هناك مجلس يكوّن نفسه بنفسه من محامين يدافعون عن المُشتكى عليهم وكان ذلك محض إستهزاء في مسرحيات أرستوفانيس الكوميدية. عندما أسست اثينا الاتحاد الاثيني البحري مع الجزر المجاورة كقوة بحرية إتحادية ضد أي اعتداء فارسي جديد عقب الحرب ضد الفرس في سلاميس .. أصبحت أثينا امبراطورية تستلم جزية من كل جزيرة تابعة للاتحاد. وبذلك ارتبطت الديمقراطية بسياسة امبريالية خارجية. بالرغم من كل هذه الانتقادات تبقى ديمقراطية اثينا خالدة وشوكة في عين الديمقراطيات المعاصرة وبالاخص ديمقراطية العراق التي هي بحاجة ماسّة جدا إلى تفعيل المشاركة الشعبية وإلى الوعي الشعبي وإلى الشفافية في التعرف على الرؤساء والتقرب إلى المرؤوسين. فما ينقص الديمقراطيات الحديثة فعلا هو حداثتها..
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@brob.org |