مقالات

الفلسفة الاغريقية في السياسة والدولة .. الجزء الثالث 

 

قرطبة الظاهر

السفسطائيون: فكرهم وفلسفتهم  

"السفسطة" تعريبٌ للكلمة الإغريقية (Sophistae) وتعني فن التحويراللغوي. أما كلمة الفلسفة فهي تنقسم إلى قسمين: (philo) وتعني الحب و (Sophia) الحكمة، أي حب الحكمة وهذا هو مفهوم الفلسفة. ولكن هناك فرق كبير بين الفلاسفة وبين السفسطائيين. يتضح هذا الفرق في الحوار والتحاور مع الآخر وفن التلاعب بمفردات الكلمات والبلاغة اللغوية العميقة التي يمتلكها السفسطائيون وفن التعبير، إذ انهم معروفون بقدراتهم العظيمة في اقناع المقابل من خلال تحوير اللغة وعكسها وإستحداث كلمات جديدة في القاموس الاغريقي بطريقة بالغة في الفن والمهارة. بالاضافة إلى ذلك يُعتبر السفسطائيون أساتذة في فن الإلقاء، وتلك ميزة أخرى إمتاز بها السفسطائيون الذين قلبوا الفلسفة الاغريقية رأساً على عقب وكانوا هم أوائل الفلاسفة الإغريقيين. وبالرغم من عدم إستجابة الفلاسفة لطروحاتهم ونظرياتهم أجمع جُلُّ الفلاسفة العظام مثل سقراط وأفلاطون فيما بعد على أن لا يصرفوا الانظار عنهم بل بالعكس، فخير سياسة في أثينا هي التحاور مع الآخر وإقناع المقابل. فكانت كتبهم مليئة بالحوارات مع السفسطائيين. لقد كان السفسطائيون أوائل المعلمين المحترفين في الآداب الانسانية فهم اول من أهتم بالعلوم الانسانية وما يفعله او يصنعه الانسان. إن تكوين المدينة حسب إعتقادهم تم فقط عن طريق عقد بين الافراد وهذا العقدُ هو القانون أو الدستور. وبذلك يُعدُّ السفسطائيون الاوائل في مسائل العقد الاجتماعي. بينما تبتعد الفلسفة الكلاسيكية عن هذه النظرية تماما وتتجه نحو الحوار والالقاء والاقناع. لم يكن هناك شيء في المدينة يثير الجدل ما لم يتدخل في أمره السفسطائيون. إنهم أولُ من طالب بمساواة العبيد مع بقية البشر في أثينا وانهم أعتبروا حكم الفرد الواحد هو حق القوي على الضعيف.

 لم يحظَ السفسطائيون بمنزلة عالية في أثينا بل كانوا مكروهين من قبل الطبقة الارستقراطية التي كانت محتلة من قبل الشعراء والمسرحيين والمؤرخين. وحتى الكاتب والشاعر الالماني الشهير كوته Goethe وصف السفسطائيين في مسرحية فاوست على أنهم كذابون "أنتَ لازلتَ وتبقى كذّاباً كالسفسطائي". وبما أن الكلمة الانجليزية "sophisticated" تعني مثقف أو متحضر لكنها في لغات أخرى مثل اللغة الالمانية تعني عكس ذلك تماما. من أسباب هذا العداء للسفسطائين فقدانُ مصادر كثيرة عنهم وعمّا كتبوه. إلا ان حوارات سقراط أو أفلاطون معهم هي التي تجعلنا نعي كيفية طرح السفسطائيين للاسئلة المثيرة للجدل. لقد أحدثوا ضجة فكرية كبيرة في أثينا والتي تحولت فيما بعد إلى أزمة بسبب طريقة ونمط طرح الفكرة والرأي وتباين المهارات والمنافسة بين الفلاسفة والسفسطائيين في إيجاد الجواب الامثل في البحث عن تكوين وإنهيار الوحدة بين القانون الالهي والانساني، بين القانون (nomos) كمعضلة قيمية بحاجة إلى تنوير وتوعية وبين الطبيعة (physis).

الموضوعان الأخيران هما الميزتان الاساسيتان اللتان تفرّقان السفسطائيين عن باقي الفلاسفة. إنهم يعتبرون القانون، القيم، العادات نقائضَ للطبيعة. القانون في منظورهم لا يمت بصله للالهة، إنه علماني وليس روحانياً لكونه كُتب من قبل البشر للبشر. خُلِقَ البشرُ سواسية في الطبيعة إلا أنَّ القانون جزّأ وصنّفَ البشر في طبقات بشكل إصطناعي ومُختلق. يخلصُ السفسطائيون إلى أنَّ هذا الامر هو محاولة الاغلبية القوية في تقييد او تضييق حريات الاقليات الضعيفة والتحكم بها.

يؤكد السفسطائيون على أن الحوار مع الاخر قد لا ينتج القناعة، لذا إعتمدوا على المهاجمة في الحوار واعتبروها فن من فنون القوّة والسلطة الكلامية. فمن يملك القوة اللغوية يملك القدرة على إقناع الآخر والتغلّب على فكره وكسبه حتى لو كان الاخيرُ خصماً سياسياً. لا تعتمد فنون الاقناع على تحمل مسؤولية ما يقال بل تستهدف فقط الانتصار على المقابل. ففن الحديث يُعتبرُ وسيلة تكنيكية حيادية بدون قيمة معينة. وإنها حيادية لا تصب في منفعة أحد بل انها أداة ووسيلة للاستخدام العام. فالطاغي يستخدمها كما يستخدمها الديمقراطي. لهذا السبب نعتَ أحدُ تلاميذ سقراطَ، الكاتبُ والفيلسوفَ كسينوفون، السفسطة ب"دعارة العلم".

كانت السفسطة في بلاد الاغريق قوة سياسية و حضارية. فحضاريا أعتلى صوتها وصداها من تراجيديات اويريبيديس وقصص هيرودوت وثوكيديديس. أما سياسيّاً فلم تستطع أنْ تبرزَ إلا كمدرسة فلسفية. وكان السفسطائيون مثل بروتاغوراس وغورغياس يعملون كمبعوثين من مدنهم إلى الدوائر الحكومية فيتواجهون مع السياسيين مثل بريكليس والكيبياديس او كريتياس. وكان لهؤلاء تأثيرٌ كبيرٌ  على السياسة نظريا وتطبيقيا. تنقسم السفسطة في نظرياتها وجوهرها إلى ثلاثة اقسام: اليمين، الوسط واليسار السفسطائي. من هذا نستنتج بأنَّ السفسطائية كانت متلوِّنة ومتعددةَ الاتجاهات والتوجهات السياسية والفكرية. كان ثرازوماخوس وكاليكليس من مناصري اليمين السفسطائي وكانا يحاوران أفلاطون في كتابه (Politea) بما يعني الدستور. يبرزُ هذان الرجلان لدى أفلاطون كمحللين سياسيين متهكمين بالسلطة. يُعد كريتياس كذلك من مناصري اليمين السفسطائي ( وهو عم أفلاطون ) وكان أحد الثلاثين طاغيا في أثينا عقب انتهاء الحرب البيلوبونية. ويقال عن اليمين السفسطائي أنه متزمت ويميل إلى حقانيّة السلطة وسياسة القوي ضد الضعيف ولا يُدِّعمُ أيَّ فكرٍ ديمقراطي. أما اليسار السفسطائي فيدعو إلى فصل القانون عن الطبيعة ومساواة جميع البشر. في إحدى خطب تلاميذ غورغياس يُشار إلى أن "الاله هو من خلق الجميع سواسية والطبيعة لم تجعل أحداً عبدا". لم يُعرف لحد الآن معنى المساواة لدى السفسطائيين، أهيَ مساواة الإغريق مع البرابرة أي مع غير الاغريق من الشعوب الاخرى، أمْ مساواة البشر ككل مع بعضهم البعض؟ يبقى هذا السؤال يحيّرُ العديدَ من علماء الآثار والفلسفة الاغريقية. في أحد الحوارات لافلاطون مع بروتاغوراس يقول السفسطائي هيبياس : "أنا أعتقد، يا معشر الرجال، أننا أقرباء وأصدقاء وكذلك مواطنون بالفطرة وليس بالقانون". أما أنتيفون فيقول :" من ينحدرُ من آباء نبلاء نتشرف به ومن لا ينحدر من آباء نبلاء لا نتشرف به. وبذلك نحن نتعامل مع بعضنا البعض كالبرابرة، لأنَّ الطبيعةَ خلقتنا جميعاً من نفس العِرق، برابرة وإغريق. أفلا نستنشق الهواء من أنوفنا وأفواهنا؟ أفلا نأكلُ الطعامَ بأيدينا؟".

يُعدُّ بروتاغوراس وغورغياس من السفسطائيين الوسطيين. ويُعتبر بروتاغوراس من أهم السفسطائيين وصاحب أشهر مقولة: "الانسان هو مقياس كل الاشياء"، وأيضا صاحب أسطورة نشأة البشرية والدولة وهي تربط السفسطة بالديمقراطية. الاشياء في مفهوم بروتاغوراس تعني كل ما يَشخصُ أمام الانسان تام الظهور . لكنَّ الاشياءَ قد تظهر ُبشكل لدى هذا الشخص وبشكل آخرَ لدى ذاك الشخص فكيف نستطيع توحيدها كي تشخصَ أمامَ الجميع بنفس المظهر؟ قد يُفهمُ القانون أو يفسّرُ بطريقة لدى بعض الناس ويفهمه البعضُ الآخرُ بطريقة أخرى. بمعنى آخر، أنَّ ما يظهرُ فعلا قد يكون عكس الصورة أو صورة من الحقيقة وراءَ هذه الصورة. هنا يتحول حوار أفلاطون إلى استخدام كلمة "الإدراك" فكل ما نراه في الصورة نُدرك بان هذه الصورة تعكسُ ملامحَ حقيقةِ ما وراءَ الصورة. كلُّ أمرٍ يُطرحُ يحتاج إلى الرأي والرأي الاخر. لذا يعتبرُ الإغريقيون أنَّ التحاورَ لا ينتجُ الآراء المتباينة حسبُ ، بل الفكرة الافضل أو الحل الامثل. وهذا لغز الديمقراطية في أثينا، النسبية والتناسب. إنها تتكون من سياسة البحث عن الحل الامثل باستقطاب عدة آراء ومقارنتها ثم إستخلاص الرأي المقبول نسبيا من الجميع. خيرُ مثال على النسبية والتناسب هي أسطورة بروتاغوراس التي تتحدث عن نشأة الانسانية ومغزى الديمقراطية والفن السياسي. وتروي هذه الاسطورة قصّةَ رجلين هما أبيميثويس وبروميثويس. كُلّفَ الاوّلُ بتوفير كل وسائل الحياة لهم والاعتناء بالحيوانات، أما بروميثويس فعليه أنْ يُمعنَ النظرَ في عمل أبيميثويس ويتفحّصهُ. فما فعله ابيميثويس هو أنه قام باعطاء ما تحتاجه كل الحيوانات بالتساوي ووفر لها كلَّ وسائل الخروج والهروب وجهّزها حتى بالاسلحة كي لا يُبيد بعضُها البعضَ الآخرَ . لكنه نسيَ أنْ يبقي شيئاً من الطعام والسلاح للبشر. فكل ما كان متوفراً لديه قام بتوزيعه على الحيوانات. فكّرَ بروميثيوس بما قد ينقذ المخلوق البشري كي يستطيع مواجهة الحياة بنفسه فقررَ أنْ يهبَ  له النارَ والعلمَ وأنْ يُعلّمَهُ فنونَ العلوم. لكنه لم يهبْه فنونَ السياسة (politike techne). إستطاع الانسان أن يتقرب بذلك من الآلهة وأن يبني لها معابدَ ويؤمن بها . كما استطاع أنْ يربطَ الاصوات والكلمات على أنها من الفنون وأن يكسي نفسه ويبني بيوتا لكنه لم يتمكن بعد من أنْ يؤمِّنَ لنفسه حياته دون إتقان فن السياسة. فما المنفعة من التجمع في مدينة واحدة دون تعلم التعايش والحوار وإرساء السلام؟ أرسلَ الإلهُ "زويس" للبشر جميعا العفّة والحق اللذين يُعتبران القاعدة الاساس لبناء القيم والسياسة للانسانية. هنا يتناقض مفهوم أفلاطون مع بروتاغوراس في أنَّ فنَّ السياسة هو فن الراعي والطبيب والحوذي أي أنها فن كل انسان وليست فن الاخصائيين. يتضح ايضا من خلال هذه الاسطورة أن بروتاغوراس كان يريد أنْ يثبتَ لسقراط أنَّ الفضائل لا توجد بالفطرة بل أنها تُعلّم. 

عادت السفسطائية في العصر الحالي إلى الوسط السياسي لتكون أداةً لغويةً للوصول إلى السلطة والحفاظ على ديمومتها. فبعد أنْ إعتبرَ المُفكّرُ الفيلسوف هيغيل السفسطائيةَ نقطةَ تحوّل تأريخيٍّ من الفكر العام إلى النظر في الشخصية الفردية، ينظر لها المفكر جاسبرس كدليل على التنوير الثقافي المعاصر. أما في العراق الحديث فنجد اليوم الكثير من دعاة السفسطائية في الوسط السياسي واكثرهم من رجال الدين والقوى المؤدلجة دينياً-عقائديا أو سياسياً والتي تتفنن في إقناع الأفراد بتحوير اللغة وبفن الإلقاء والتلاعب بمفرادت اللغة العربية وإستحداث مفردات جديدة كأداة لمواجهة خصومهم السياسيين. نواصل في هذا المعترك المؤلم البحث عن الفضائل من أجل إيجاد القيم العليا في الفنون السياسية والعمل على الالتزام بها وتطويرها كما فعل الأغريق من قبلنا...  

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org