|
مقالات سينما الخيال العلمي والأسئلة الأخلاقية المعاصرة!
يوسف أبو الفوز
كيف ستتصرف اذا كان أمامك خيار ان تحصل على مليون دولار مقابل ان يكون ثمن ذلك موت انسان لا تعرفه؟ تخضع موضوعة الأختيار ببعدها الانساني لمنظومة الاخلاق، التي هي شكل من أشكال الوعي الإنساني، بابعاده الفلسفية والدينية، فالموقف هنا ترسمه الظروف التي يمر بها الانسان المعني، وتجاربه التي تخلق قناعاته وبالتالي خياراته وفقا لمبادئه ونظرته الى الحياة، وفي الكثير من الاعمال الادبية، التي عرفها القارئ في كل مكان، نجد ان منظومة الاخلاق، التي تضع معاييرا للسلوك الانساني، تحتل جانبا مهما في رسم ابعاد اختيارات وقرارات الانسان. السينما بدورها، وبحكم علاقتها المتينة بالادب، كثيرا ما تناولت موضوعات اخلاقية بشكل درامي وعبر منظومة من حلول تغلفها بالموعظة الفلسفية والدينية، وغالبا ما تضيف لها رتوش اثارة وتشويق من اجل كسب جمهور اكبر. افلام الخيال العلمي بدورها، وجدت في موضوع الاخلاق فرصة مناسبة للاغتراف منها، وافلام الخيال العلمي، التي تعرف عادة بمصطلح "sci-fi"، معروف انها تلجأ الى الاستفادة من المجال الخصب الذي تمنحه العلوم لمنح القصص فضاءات تناقض الحقائق الواقعية والتاريخية مما يضفي عليها طابعا تأمليا وحيويا اضافة الى التشويق والاثارة لجعل المشاهد ينشد الى هذا النوع من الافلام والقصص، ولطالما تعّرف المشاهد المتابع الى افلام من نوع الخيال العلمي، يجد ان حبكتها تتضمن موضوعات اخلاقية . ومنذ افلام السفر عبر الزمن، المستندة الى رواية "آلة الزمن" الشهيرة للمؤلف الاشتراكي الانكليزي هيربرت جورج ويلز (1866 ـ 1946)، التي صدرت عام 1895 واخرجت للسينما لاول مرة عام 1960، وفيها يتم الحديث عن الصراع الطبقي واحتدامه والدعوة الى التقليل من الفوارق الطبقية، مرورا بفيلم "أي . تي" الذي اخرجه عام 1982، المخرج الامريكي ستيفن سبيلبرغ (مواليد 1946)، وفي الفلم يكتشف الصبي "أيليوت" مخلوقا فضائيا صغيرا طيبا، حطت مركبته على الارض بالخطأ فيقوم باخفائه عن اهل الارض الباحثين عنه ويسهل عودته سالما الى وطنه، وصولا الى فلم "المتجسد" 2009 (بالإنجليزية: Avatar) للمخرج الامريكي الكندي جيمس كاميرون (مواليد 1954)، وحضي هذا الفيلم بشهرة واسعة، أذ تخطى حدودا كبيرة، وسجل لنفسه علامات لم ينلها فلم غيره، من ناحية تكاليف الانتاج التي بلغت حوالي 300 مليون، والتي استعادها في الاسبوع لعرضه، ليحقق بذلك رقما قياسيا في مبيعات التذاكر، ونال عدة جوائز عالمية، اضافة الى احتواءه مؤثرات تشهدها السينما لاول مرة، وجعلته يعتبر بداية مستقبل لصناعة الأفلام التي تعرض بطريقة الأبعاد الثلاثية، هذا الفلم ايضا راحت حبكته تناول موضعات اخلاقية تعني بمواقف الجنس الجنس البشري من البئية والعلاقة مع الاخر، حيث يختلط بطل الفلم، الذي ارسل الى الفضاء، بشعب " النافي" بغرض التجسس عليهم لصالح سكان الارض، الذين يخططون لمهاجمتهم من اجل معدن ثمين، لكنه في النهاية يرفض الأنصياع لخطط سكان الارض ويلتحق مع شعب المرأة التي احب ويصير واحدا منهم . ويمكن تعداد اسماء العديد من افلام الخيال العلمي التي يجدها المشاهد تتناول مفاهيم اخلاقية ومشاكل معاصرة، وتحاول ان تعرضها للمشاهد بشكل مشوق محيلة المشاهد الى اسئلة معاصرة يومية . سنتوقف في هذا المقال عند فلم "الصندوق" انتاج عام 2009، والذي عرض في بعض البلدان بأسم تجاري هو" الصندوق القاتل "، حيث نجد انه ينتمي الى سلسلة افلام الخيال العلمي، التي تبني حبكتها على موضوعة اخلاقية، هي : الاختيار ! مخرج فلم "الصندوق"، هو الامريكي "ريتشارد كيلي" (مواليد 1975)، الذي سبق له وان اخرج عام 2001 فلم دونّي داركو «Donnie Darko » الذي كتبه بنفسه، وهو لا يقل غرابة في موضوعه عن فيلم "الصندوق "، الذي كتب له السيناريو بنفسه، لكن هذه المرة استنادا الى قصة قصيرة بعنوان " الزر ... الزر " لكاتب الخيال العلمي المعروف " ريتشارد ماثيسون"( مواليد 1926 )، الذي يعتبر من اساطين كتاب هذا النمط من الافلام، وسبق وتحولت العديد من قصصه إلي أفلام سينمائية نالت الشهرة والنجاح التجاري المطلوب، مثل قصته "أحلام قد تتحقق" من إخراج "فينسنت وارد" وبطولة "روبن ويليامز"عام 1998، ورواية "أنا أسطورة"، التي كتبها عام 1954 وانتجت للسينما عدة مرات، آخرها كان عام 2007 ولعب بطولته الممثل والمطرب "ويل سميث"، والطريف هنا أن قصة فيلم "الصندوق" سبق وان مثلت في ثمانيات القرن الماضي كحلقة تلفزيونية ضمن المسلسل الامريكي الناجح " منطقة الشفق " الذي عرض في السنوات 1959 ـ 1964 وساهم بكتابة حلقاته العديد من الكتاب، لكن المخرج ريتشارد كيلي عاد اليها، مغامرا بخبرته السابقة الناجحة، التي وصفت بالقوة والالهام، ليحاول ان يقدم فلما من الخيال العلمي، مشوقا محاولا الاجابة فيه على اسئلة معاصرة . فماذا وجدنا؟ أذا تركنا جانبا كون الفيلم كان متواضعا في تكاليف انتاجه، التي قدرت بحوالي 30 مليون دولار، فأن الفيلم تميز بشكل عام بالبطيء في ايقاع احداثه الى حد الملل احيانا، بل حتى موسيقاه، كما اشار بعض النقاد، لم ترق الى مستوى موسيقى افلام المخرج السابقة، وهو الذي عرف عنه عنايته في اختيار الموسيقى التي يعتبرها دائما عاملا مميزا في بناء الفيلم وجزء من حبكته . ومع نهاية الفيلم، الذي تمتد مدة عرضه 115 دقيقية، يكون واضحا للمشاهد أن الفلم تحملت اعباءه الممثلة الامريكية، وعارضة الازياء السابقة، "كاميرون دياز " ( مواليد 1972 )، التي عرفها المشاهد في عدة افلام ناجحة تجاريا، مثل فيلم الحركة "ملائكة تشارلي" 2003 من اخراج جوزيف مكجينتي نيكول، عصابات نيويورك 2002 للمخرج العبقري مارتن سكورسيزي، وفيلمها الاشهر " هناك شيء حول ماري " 1998 من اخراج الاخوين بوبي وبيتر فاريلي، الذي فتح امامها ابواب الشهرة، ونالت عليه جائزة دائرة نقاد أفلام نيويورك كأفضل ممثلة لعام 1998. في فيلم الصندوق يواجه المشاهد سؤال كابوسي : كيف ستتصرف اذا كان أمامك خيار ان تحصل على مليون دولار مقابل ان يكون ثمن ذلك موت انسان لا تعرفه ؟ من المشاهد الاولى يضعنا الفيلم امام هذا السؤال الاخلاقي، المتعلق بالقيم التي تعلمها الانسان في حياته وتجاربه، وسبق وان تناولته علوم الفلسفة والاجتماع والاديان السماوية . في مقدمة الفيلم ولاكثر من نصف ساعة وبأيقاع بطيء ممل، نتعرف الى الزوجين آرثر لويس (الممثل جيمس مارسدن ) العامل في وكالة ناسا للفضاء، والذي فشل في ان يكون رائد فضاء، ونورما لويس (الممثلة كاميرون دياز) المعلمة، وابنهما الصبي "والتر" المعتل صحيا، الذين يعيشون في منزل صغير في مدينة "ريتشموند " ونجد انهما يواجهان صعوبات مالية، فالمدرسة فجأة تقرر الاستغناء عن خدماتها، وهناك الفواتير ومستحقات المنزل، والرعاية الصحية للابن الوحيد، ورغبة الزوج في اجراء عملية جراحية لقدم زوجته التي بتر ت اصابع احدى قدميها في حادث، ويوما، في الصباح الباكر، يجدان امام باب بيتهما صندوقا يحتوي على زر أحمر، وثم يزورهما صاحب الصندوق، المشوه الوجه، الرجل الغامض "ارلينجتون ستيوارد" (الممثل فرانك لانجيلا )، الذي يظهر أنه عالم سابق في ناسا، سبق وتعرض الى البرق ولكنه نجا منه رغم الاعلان عن موته إكلينيكيا، ويعرض على الزوجين مبلغ مليون دولار، اذا قررا الضغط على زر الصندوق، مقابل ان يموت انسان في مكان ما، وعلى شرط أن لا يخبرا احد بالامر . مع استلام الصندوق تبدأ مأساة الزوجين، اذ يبدأ الخلاف بينهما، فالزوجة نورما ترى ان العرض مغريا، وفي كل الاحوال ان هناك انسانا ما، لا تعرفه، قد يموت لأي سبب، سواء بسبب المرض او حادث سيارة، او غيرها، ولكن الزوج يكون مترددا ومتشككا، لكن الزوجة وفي لحظة مفاجأة لنفسها ولزوجها تقرر ضغط الزر، ويجدان انه صار من الصعوبة التراجع، اذ سرعان ما يصل الرجل الغامض ويقدم لهما المليون دولار عدا ونقدا، وتبدأ محاصرتهم ومراقبتهم من قبل اناس مسيرين، هائمين، تنزف انوفهم دما، كعارض مشترك للسيطرة عليهم من قبل الرجل الغامض وعملهم لصالحه . شخصية الرجل الغامض، العائد من الموت، بنصف وجه مشوه، قام بأدائها الممثل الايطالي الامريكي فرانك لانجيلا، الذي نال عدة جوائز عالمية في التمثيل، والذي يشكل وجوده في افلام عديدة حضورا بارزا، لكنه في هذا الفلم، قدم شخصية نمطية الايقاع، ما عدا التماعات قليلة في مشاهد جمعته مع الممثلة كاميرون دياز، التي يمكن القول انها حملت الفيلم على اكتافها، بأداء جيد يختلف عن بقية افلامها، اذ تخلت هنا عن جمالها وشكل الاغراء المعروفة به، وارتضت ان تكون سيدة عرجاء تعاني من عوق في قدمها . شخصية الرجل الغامض توحي للمشاهد بشخصية الشيطان، التي عرفناها في اعمال ادبية عديدة، بل وهناك اشارات في حوار الشخصيات الى مسرحية " الجحيم " للكاتب الفرنسي "جان بول سارتر"، التي يمر ابطالها بمراحل معينة من الاختبار، ويعتبرون " ان الجحيم هو الاخرون"، وفي الفيلم كان يمكن اثراء شخصية الرجل الغامض، فثمة الكثير من الغموض والاسئلة حولها، فهذا الرجل الذي يفترض انه ميت نجده يتعامل مع مجموعة مجهولة لا نعرف عنها شيئا، شاهدناه معها في مكان واسع وضخم اشبه بديكورات عوالم الفضاء، ويعملون على انجاز مشروع ينوي السيطرة على الناس، من خلال اجبارهم على المرور عبر بوابة عبارة عن مستطيل مائي تنجز عملية انتقال روحي الى عالم اخر، هو عالم الرجل الغامض واتباعه، ويحاول فلسفة فكرة الصندوق للزوجين من كونها تلخص حياة الانسان، الذي يعيش في منزل كالصندوق، ويتنقل في سيارة كالصندوق وثم يحمله الى القبر تابوت كالصندوق . من بعد اجبار الزوج للمرور عبر البوابة ودخول عالم الرجل الغامض، لم يكن مقنعا للمشاهد عودة الزوج أرثر لويس، الذي يجد نفسه معلقا وسط كتلة مستطيلة من الماء فوق سرير زوجته، ثم وبمشهد يكاد يكون كوميديا ينهار المستطيل المائي ليجد ارثر لويس نفسه في السرير مع زوجته نورما وفيضان الماء يغمر بيتهم. عودة الزوج كانت تعبيرا عن رفضه الانصياع، والامتثال لرغبات الرجل الغامض، لكن الرفض لم يقدم للمشاهد بشكل مقنع، خصوصا من ناحية التمثيل، اذ كان الممثل جيمس مارسدن يلهث ويجري من مكان لاخر بدون ان نتلمس تغير في انفعالاته في العديد من المواقف، وظل جامدا ونمطيا. واذ تتصاعد الاحداث ويحاصر اتباع الرجل الغامض الزوجين المتورطين، ويصاب ابنهم بالصمم والعمى، لم يكن من حل لانقاذ الطفل سوى ان يقوم احدهما بقتل الاخر، فتطلب الزوجة بأعتبارها من ضغطت على الزر، من زوجها أن يقتلها، فهي تستحق العقاب لتسرعها في الاختيار، وسرعان ما يصل البوليس لالقاء القبض عليه، ولنر في نهاية الفيلم، الصندوق وقد ظهر من جديد امام منزل زوجين اخرين يعيشان ليس بعيدا عن بيت بطلي الفيلم، ليضعنا الفيلم أمام قضية استمرار الاختبار الشيطاني، وفشل الانسان في الاختيار الصحيح، وحجم العقوبة التي يتلقاها نتيجة قراره اذا كان خاطئا .
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@brob.org |