مقالات

العلم والدين: أيها أنجع لبلوغ المعرفة؟ 2

 

د. جواد بشارة

قد لا نجافي الحقيقة إذا قلنا أن العالم الذي نعيش فيه يطارد بلا كلل الحقيقة المطلقة الكامنة في مكان ما من الوجود، على افتراض أن هناك حقيقة مطلقة، بغية تشكيل رؤية معقولة ومقبولة ومنطقية للكون، الثابت والمتحرك، الجامد والحي. ومنذ فجر الإنسانية ارتبط هذا السعي الحثيث برجال متميزين عبر التاريخ أغلبهم من رجال الدين والمتنبئين أو الأنبياء والرسل ، لا سيما في العصور الغابرة التي سبقت الثورة الكوبرنيكية . بيد أن هؤلاء الزعماء الدينيين كان يحدوهم طموح للكشف عن الجوانب الغامضة واللغزية للكائن البشري من أجل رفع الستار عن قدره ومصيره الذي اعتبروه آنذاك مكتوباً ومحتوماً منذ الأزل، ويمكن مقارنتهم في مهمتهم تلك بالمنظرين في الفيزياء النظرية المعاصرة وعلاقتهم بالعلماء التجريبيين القابعين ليل نهار في مختبراتهم وغارقين بين تلسكوباتهم وميكروسكوباتهم أو في المسرعات العملاقة للجسيمات، من أجل فك أسرار الذرة ومعرفة أصغر مكوناتها، ولمحاكاة الحوادث الكونية والرجوع إلى أقدم لحظة زمنية ومعرفة ما كانت عليه المادة، أي في لحظة الانفجار العظيم Big-Bang ودراسة وتحليل أطياف الضوء الذي تتلقفه التلسكوبات العملاقة والمتطورة جداً من أعماق الكون والذي تبثه المجرات والنجوم والأجرام السماوية منذ 15 مليار سنة على الأقل. وسوف لن نبتعد عن الحقيقة كثيراً إذا قلنا أن للأديان دور كبير في نشوء وتطور وانتفاضة العلوم الحديثة، على الأقل من زاوية الثورة على الأديان وتحدي مسلماتها وأطروحاتها الغيبية والماورائية، مما يفسر ردة فعل الأديان العنيفة في قمع وقتل العلوم التي تعمل على تقويض أساستها الروحانية المتينة الضاربة في جذور التاريخ البشري. وقد أعاقت الأديان الكبرى وعرقلت تقدم العلم وتطوره بشراسة وعنف سجله لنا التاريخ، خاصة العلم الذي يطعن في صحة وصلاحية العقائد و ينسف الدعامات الفكرية والأيديولوجية التي تستند إليها الأديان في ديمومتها. ومنذ أن بدأ علماء الفلك الحداثيين، ابتداءاً بكوبرنيكوس الذين أنزلوا الأرض من عرشها وموقعها المقدس كمركز للكون وغاية الخلق والوجود ومسكناً للإنسان ، الذي اعتبرته الأديان أهم وأعقد وأقدس كائن حي خلقه الله، طاردت الكنيسة واضطهدت أولئك العلماء الأفذاذ بتهمة الهرطقة والزندقة والسحر والشعوذة فأحرقت جيوردانو برونو وهو حي لأنه أصر على موقفه العلمي وتصريحه علنا بتعدد العوالم والأكوان والكائنات الأخرى التي تملأ الكون وتتفوق علينا كثيراً، كما أجبرت غاليلو غاليه على التراجع والتنكر لمواقفه ونظرياته العلمية، وأرغمت ديكارت على النفي، وظلت تحارب العلم والعلماء حتى في العصر الحديث من القرن السابع عشر إلى أوائل القرن العشرين ولم يسلم منهم حتى أسحق نيوتن وألبرت آينشتين. واحتاج الأمر لسنوات طويلة ولتحولات سياسية وفكرية واجتماعية عميقة حتى تتغير طبيعة العلاقات بين بعض الكنائس والعلم. وفي كل الأوقات والحقب الزمنية كان هناك تعايش مشترك، تارة هاديء وتارة مشحون بالتوترات والمواجهات والصراعات، بين الظلاميين، من جهة، ومن يعتبرون العلم رحمة للبشرية وما يقدمه له من أنوار وإضاءة لدروب المعرفة، من جهة أخرى. وكان الظلاميون هم من ربح المعارك الأولى بدعم ومؤازرة رجال الدين بيد أن العلماء هم من انتصروا في آخر المطاف ، لا سيما منذ أواسط القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين ، رغم هيمنة وسيطرة الذهنية الدينية على أكثر من ثلاثة أرباع البشرية على سطح الأرض، إلى يوم الناس هذا. إن توبة الكنيسة الكاثوليكية وردها الاعتبار لغاليو غاليله يكرس المكانة التي يستحقها العلم في مسيرة الإنسان وتطوره ودوره في تكوين الصورة العلمية الدقيقة للواقع والوجود. ولكن ما يزال هناك العديد من القوى الظلامية، المتشددة والمتعصبة، في جميع الأديان، تتنكر للحقائق العلمية وتحاربها لأنها تعتبر العلم تحدياً لإرادة الله وللقوانين الإلهية وتعتبر العلم والعلماء عملاء للشيطان الخصم الأكبر للإله والعدو اللدود لإنسان.

شهد القرن التاسع عشر بداية لنشوء ما يمكن تسميته بـ " دين العلم" وانتشر اعتقاد وإيمان ساذج بقدرة العلم الكلية في تقديم الإجابات، يوما ما، على جميع التساؤلات الوجودية والفلسفية التي تقلق النفس البشرية. وقد بالغ البعض في هذه النزعة المادية والإلحادية حتى أصبحت عقيدة راسخة لا تختلف عن العقائد الدينية الغيبية السلفية خاصة لدى بعض الماركسيين في الاتحاد السوفيتي السابق. وكان تفوق المجتمعات التي تستخدم العلم الحديث على نطاق واسع في كافة مجالات الحياة، قد أثار، في آن واحد، إعجاب وحنق المجتمعات التي ما زالت مقيدة بالمنطق الديني السلفي، والتي صارت تطرح المسألة وكأنها صدام حضارات، وهي الأطروحة التي قدمها صاموئيل هينتنغتون وتلقفتها العقول الدينية المتحجرة كهدية من السماء لتعمل بموجبها. فالنخبة العلمية في الحضارة الغربية تتحدث عن " أسطورة الله أو خرافة الإله الديني" بينما تقدس النخبة، والقاعدة الشعبية، في المجتمعات المتدينة، فكرة الله الواحد العلي المتسامي فوق كل الموجودات، ومن هنا منشأ الصراع الأيديولوجي بين الذهنيتين. أشاع الغرب فكرة موت الله أو إنه اختفى وتخلى عن البشر قبل الانتهاء من مشروعه في الخلق المطلق، وبات الخالق المتعالي كصانع الساعة الكونية الدقيقة التي تعمل وحدها وفق آلية ذاتية معقدة ودائمية، بحيث لم تعد بحاجة لتدخل صانعها، بينما يريد السلفيون والأصوليون في كل الأديان فرض الاعتقاد بالله بقوة السيف وبالعنف لإخضاع البشرية لرؤيتهم الاعتقادية.

في نهاية العقد الأول من القرن الحالي الواحد والعشرين، تجذر الصراع بين المعسكرين وبدا كأنه مسألة حياة أو موت لأحدهما، لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية التي ما يزال الدين فيها هو القوة المهيمنة على السياسيين وصناع القرار، وللكنيسة دور لا يستهان به في صنع الرؤساء، ويعمل هؤلاء على ترسيخ مكانة اللاهوت إزاء العلم، إلى درجة أنهم نجحوا تقريباً في مسعاهم لإلغاء مادة التطور والانتقاء الطبيعي ونظرية داروين من مناهج الأحياء التي تدرس في المدارس واستبدالها بمادة الخلق التوراتية، وكان لا بد من إيجاد تسوية ما تضمن الحرية لكل منهما للعمل كل في ميدانه دون تصادم أو اختراق أو انتهاك للصلاحيات، خاصة في ميادين التربية والتعليم، حيث نجد اليوم الأطروحة الدينية والأطروحة العلمية جنباً إلى جنب في الكتب المدرسية، وبالتالي لا بد من الفصل بين المجالين، كما يطالب العلمانيون. هناك عامل أخلاقي مشترك يتلخص بتوفير السعادة التامة للإنسان كما تدعي الأديان، وتوفير سبل الرخاء والتقدم والعيش الرغيد بفضل التقدم العلمي والتكنولوجي، أي السعادة التامة أيضاً، كما يزعم العلماء، بالرغم من عمومية وغموض مفهوم السعادة التامة لدى الجانبين، وذلك استناداً إلى ذريعة " الفائدة" أو المقاربة النفعية approche utilitariste، التي تطرح دائماً شرط معرفة " ما فائدة ما نقوم به للإنسان؟". وغالباً ما تثير هذه المقاربة صدمة لأنها تصطدم بناحيتين متجذرتين في ردة فعلنا العفوية إزاء المشاكل الأخلاقية، الأولى تتعلق بالأخلاق التقليدية، مثل: طاعة السلطات وأولي الأمر، والخضوع لإرادة الأمة، والجماعة، والقبيلة، والدولة، واحترام الأديان ورجال الدين وطاعتهم، حيث ينبغي دراسة وتقويم هذه الأمور على ضوء مبدأ السعادة التامة والفائدة المرجوة أو المنفعة الجمعية والفردية، والناحية الثانية تتعلق بإرادة الانتقام والمعاقبة، فمن وجهة النظر النفعيين، فإن كل عقوبة يجب أن تبرر فقط بناءاً على، أو وفقاً لمبدأ، "السعادة التامة والقصوى" وليس فقط لتحقيق الرغبة في معاقبة الأشرار. وفي واقع الأمر فإن مبدأ النفعية يضع بين قوسين أو يحيد مشكلة المسؤولية وحرية الاختيار في الرأي والمعتقد libre arbitre التي يتمتع بها الإنسان بالمقارنة مع باقي الكائنات الحية التي تقاسمه العيش على الأرض. فبالنسبة للفيلسوف النفعي يوجد تقدم في ميدان الأخلاق كما يوجد تقدم في مجال العلوم، ويمكننا التوصل إلى مواقف مقبولة من خلال المراقبة والملاحظة والمشاهدة والرصد والتمعن العقلي والنفسي، ومن فهمنا للطبيعة البشرية، يمكننا أن نكتشف، على سبيل المثال لا الحصر، أن العبودية أمر سيء بينما الإجهاض ليس سيئاً، والحال أن الأديان سمحت بالأول وحرمت الثاني. وبالنتيجة لو أزلنا من الدين جوانبه الأخلاقية وأحكامه الخلقية القطعية ، ومسلماته في الثواب والعقاب الدنيوي والآخروي، فإنه سيفقد خاصيته المميزة له، ويتجرد من مضمونه وسبب وجوده، من هنا نرى أن الطريقة التي يعالج بها رجل الدين المشاكل الأخلاقية تعارض بصورة راديكالية المقاربة المبنية على المفهوم العقلاني للعالم. وبهذا الصدد تجدر الإشارة إلى وجود تقليد في الغرب عرف بـ " التمرد على العقل révolte contre la raison" نجد سماته لدى بعض الكتاب والفلاسفة الغربيين على اختلاف مشاربهم وأفكارهم مثل باسكال ونيتشة، والذين يرفضون النقاشات والسجالات السابقة ويتقبلون برحابة صدر عدم وجود ذرائع ومبررات وحجج عقلانية تعمل لصالح الدين وإن الأمر لا يتعدى، في نهاية المطاف، سوى كونه خيار شخصي ليس إلا، وإن بإمكاننا أن نؤمن ونعتقد بفكرة ما حتى لو كان ذلك أمراً عبثياً، بل وربما بالذات لكونه أمراً عبثياً ، باعتباره مجرد التزام بنمط حياة معين ، وأصبح هذا النوع من السلوك منتشراً ويتمتع بشعبية بعد انتشار فكر ما بعد الحداثة postmodernisme ، أو شيوع فكرة :أن المهم ليس معرفة أن ما يقال صحيح أو خاطيء ، وإن التمييز بين الصواب والخطأ لا معنى له ، وإن ما يهم هو النتائج العملية المترتبة على الإيمان والاعتقاد، والدور الذي يلعبه هذا الأخير في حياة مجموعة ما. فمشكلة التناقضات بين الأفكار والمعتقدات تحل بفضل فكرة تعددية الحقائق vérités multiples، أي أن الأفكار تبدو متناقضة فيما بينها في الظاهر لكنها يمكن أن تكون كلها حقيقية تزامنياً simultanément أي صحيحة وخاطئة معاً وفي آن واحد. وقد لخص المفكر المعروف ستيفن وينبيرغ Steven Weinberg هذه الحالة بتعليق بشأن الذاتية الدينية subjectivisme religieux قائلاً:" من الغريب أن تبدو مواضيع كوجود الله ، والعفو الإلهي والخطيئة، والثواب والعقاب، والجنة والجحيم ، ليست ذات أهمية قصوى في عصرنا الحالي، وأنا أميل للاعتقاد بأنه إذا كان الناس يتبنون مثل هذه المواقف حيال المسائل اللاهوتية فذلك لأنهم غير قادرين على حسم مسألة تقبلهم فكرة عدم تصديقهم لتلك المسائل اللاهوتية على الإطلاق". يتبع


 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org