مقالات

في ثنائية الروح و الجســـــــــد


سهيل أحمد بهجت

إن محاولة تفكيك العلاقة بين المادة و الروح كنقيضين هو عمل عبثي لا معنى له، فأن أجادل في طبيعة الروح و أضعها كنقيض للمادة هو نقيض لحقيقة الدين نفسه، بالذات عن الإسلام الذي يضفي بعدا ماديا على الحياة الدنيا و الآخرة، فبدون الجسم المادي و الشهوات و الرغبات لا معنى و لا حقيقة لوجود الإنسان، و أن نطالب الإنسان بأن يحكّم الدّين و العقل بعيدا عن الرغبات و الشهوات و حبّ الذات، هو أمر مستحيل قطعا و لو كان ممكنا لسارت البشرية في مسار مختلف كليا عن كل ما نراه في التاريخ الإنساني، فلا إنسان بدون هذا المخلوق الذي يمتلك أبعادا مادية و روحية ـ غير قابلة للفصل ـ و بالتالي فإن العلمانية و لأنها شأن عام ـ و لا تتدخل في حياة الفرد إلا من حيث إتاحة الحرية له لا أكثر ـ لذلك فهي تعالج الجوانب المحسوسة و المادية من الإنسان.

يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري:

الثنائية نفسها و الإصرار نفسه على وجود الحيز الإنساني المنفصل عن الحيز الطبيعي المادي نجده في تعريف محمود أمين العالم للعلمانية، الذي يبدأ بالقول: إن العلمانية ليست مجرد فصل الدين عن الدولة، و إنما هي "رؤية و سلوك و منهج". لكنه حين يعرّف هذه الرؤية نجده يعطيها مضمونا خاصا للغاية، إذ يقول: "إن هذه الرؤية تحمل الملامح الجوهرية لإنسانية الإنسان، و تعبر عن طموحه [الثنائي] الروحي و المادي للسيطرة على جميع المعوقات التي تقف في طريق تقدمه و سعادته و ازدهاره"، فالإنسان هنا كائن له جوهر مستقل عن حركة المادة، و لم يتم تفكيكه (و ردّه) إلى عناصر المادية الأولية، كل هذا يعني أن علمانية محمود العالم ليست مادية، و لا ترفض فكرة الكل و الجوهر و الروح و المطلق و الغاية (تقدم الإنسان و سعادته و ازدهاره)، في هذا الإطار يرى العالم أن العلمانية لا تعارض الدين "بل لعل العلمانية تكون منطلقا صالحا للتجديد الديني نفسه بما يتلاءم و مستجدات الحياة و الواقع"، إن العلمانية كما يراها الأستاذ العالم تترك حيزا كبيرا للإنسان و مطلقاته و منظوماته." المصدر السابق ص 66 و 67

إن المغالطة التي يسعى المسيري إلى إثارتها تكمن في لب فلسفته التي لا تقبل الحلول الوسط، فأنت إما أن تكون مع الروح و المطلق و اللا نهائي ضد الجسد و المادة و النسبي و المحدود، بالتالي تكون النتيجة أن نرفض العلمانية كليا أو نقبلها كليا، بينما هو فيما سبق أوضح أن العلمانية مقبولة إذا كانت تعني فصلا في بعض السلطات و طبعا دون أن يوضح ما هو هذا البعض، و نحن نؤكد ها هنا إلى أن العلمانية بطبيعتها لا تقبل التجزئة و المساومة فهي إذا ما جُزئت تتحول شيء آخر ـ يسمى بالعلمانية و هي ليست بالعلمانية ـ فالمطلقات التي يحدثنا عنها المسيري تختلف كلّيّا عن مطلقات خلف الله و محمود أمين العالم، فقد سبق و رأينا كيف أن المسيري نصب للقاريء فخا في تعريفه الذي حصر الدين بتلك "هي في النظم التوحيدية الإله الواحد المنزه عن الطبيعة و التاريخ" و بالتالي حشر كل المطلقات في العقيدة التي "يؤمن هو بها حصرا" بينما تذهب كل المذاهب و الأديان و العقائد التي لا تنسجم مع "العقيدة الصحيحة"!! إلى مزبلة المحدود و النسبي و المادي.

\إن المشكلة الحقيقية التي يتجاهلها المسيري هو أن تحديد الحرية الشخصية نفسه و بحد ذاته يتناقض مع كل التعريفات المتعلقة بالعلمانية، فمجرد محاولة التصرف في الطبيعة الفردية يناقض مبدأ الحرية و هو أمر مستحيل التطبيق حتى في ظل حكم الأنبياء فكيف بالبشر الطبيعيين؟ فحتى في الأنظمة الدينية تجد أن أبناء الشعب هم الأكثر اهتماما و انهماكا في الشؤون و المصالح المادية، رغم كل محاولات الحكومة و النظام فرض الإعلام "الديني" و "الوعظ" في الإذاعة و التلفزيون و الصحف و الحياة العامة، و كلما اتّسع نطاق "الإعلام الوعظي" كلما ازداد المواطن و الإنسان تحديا لنظام "الأخلاق" القسرية، فالأخلاق ما لم تنبع من القلب و الجوارح الحرة فإن لا معنى لهذه الأخلاق، فقد لا يشرب أو لا يتعاطى أحد المواطنين "المسكرات" و لكن ذلك يعود لعدم توفرها ـ مثلا ـ و ما أن تتوفر حتى ينطلق في تعاطيها مدفوعا بالانتقام من "أيام الكبت" و الممنوعات، كذلك الأمر بالنسبة للعلاقات الجنسية، إذ تظهر مجتمعات الوعظ انجرافا خطيرا نحو تعاطي الشذوذ و ذلك انتقاما من القيم القسرية.

يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري:

و التعريفات الجزئية السابقة للعلمانية (التي تسمح بقدر من الثنائية، و باستقلال الظاهرة الإنسانية عن الظواهر الطبيعية/ المادية، و من ثم تسمح بوجود حيز إنساني) تقف على طرف النقيض من تعريف العلمانية التي تتعامل معها باعتبارها رؤية شاملة للكون، ترى أن عالم المادة، عالم الحواس الخمس، هو البداية و النهاية، و يقترب محمد رضا محرم من هذا التعريف الشامل، فهو يتحدث عن هذا التحديث باعتباره "مسار التاريخ إلى المستقبل"، و هو عملية تراكمية "فليس غير الحديث إلا ما هو أحدث منه، و ليس من سبيل إلى المستقبل غير الاستمرار في تعاطي الحداثة" (و النظرة التراكمية تشير إلى أن الصورة الكامنة في خطابه هي صورة المادة التي تتراكم، ذرة فوق ذرة)." ـ العلمانية تحت المجهر ص 67

إن محاولات المسيري في لصق صفة "الإلحادية المادية" بالعلمانية و العلمانيين تذكرني بمحاولات الغزالي ت 1111 م الذي اتهم الفلاسفة بالكفر و الزندقة و أن فلسفتهم خطر على إيمان و عقيدة الناس البسطاء الفقراء، و هذا بالضبط ما يفعله المسيري الذي يصور لنا خلال مئات الصفحات التي سودها في دراسته عن اليهود و اليهودية و كتبه عن العلمانية و الغرب و فلسفاته، يريد لنا أن نرى أن كل ما في الغرب هو "قبيح و بشع" و كل ما هو شرقي = مسلم = عربي ـ أو حتى غير عربي ـ هو جميل و حسن و جيد، و نحن نرى كيف أنه يضع النظرية "الثنائية التي تجمع الروح إلى جانب المادة" كنقيض للعلمانية التي يعتبرها المسيري و أمثاله "مادية بحتة" لا تقبل الأبعاد الأخرى، و هو ما يناقض واقع العلمانية في البلدان الغربية الحديثة خصوصا بعد ظهور نسبية أينشتاين، فالعلمانية ترى نفسها منعكسة في عالم العقل و الواقع التجريبي، و حتى الدّين لا يمتلك شرعية من دون مقياس المنجز الإنساني على أرض الواقع، فهل يمكن لنا أن نقارن بين الكنائس و المعابد و الحسينيات التي تقوم بأعمال خيرية اجتماعية و بين نظريات القاعدة و الإسلام المزيف المفخخ مقارنة مجردة على أساس لاهوتي فارغ، و فارق كبير بين اللاهوت المبدع و اللاهوت التبريري الذي يسوق الأدلة و الآيات و الأحاديث سوق البعير و قطعان الحيوانات و دون أن يكون هناك أي منجز على أرض الواقع في مداواة جروح الإنسان و آلامه، و صدق القس الأمريكي الذي قال:

الدّين الّذي لا يصنع الرّحمة هو دين مزيف.
 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org