مقالات

 

الفلسفة الاغريقية في السياسة و الدولة ج5

 

قرطبة الظاهر 

أفلاطون

(الحلقة الثانية)

 بوليتايا (Politea): العمل الافلاطوني العظيم

تعد بوليتايا والتي كتبت بعد العام 387 ق.م. تعد اعظم عمل سياسي وفلسفي لافلاطون. يكشف فيه كل ما كان يعنيه من اهداف قيمية وإصلاحية في حواراته الاولى بشكل معمق وتفسير مفصل. هنا تبدا ملامح المدينة العادلة، المدينة الافضل والانسب والاحسن للانسان تنبري أمام اهالي مدينة اثينا الذين يعيشون حالة من الفوضى الديمقراطية غير شفافة المعالم والمبادئ والقيم الاخلاقية والسياسية والتي أدت إلى إعدام اكبر سياسي وفيلسوف ومعلم ألا وهو سقراط. المدينة الافضل من اثينا، الاكثر عدالة وإنصافا والاكثر تميزا من كل المدن. البحث عنها يبدا في بوليتايا. في هذا العمل العملاق تجتمع السياسة مع القيم ، تفتح فيه صفحات أكثر شفافية لتوضح معنى الفلسفة بحد ذاتها. لقد طرح العديد من المفكرين في العصر الحديث السؤال عما إذا كانت بوليتايا اسطورة طوباوية. بلا شك لقد استقطب الفلاسفة مثل توماس موروس 1516 في عمله "اوتوبيا" او فرانسيس بيكن 1627 في كتابه "نوفا اتلانتيس" او حتى كامبانيللا في عمله "سيفيتاس سوليس" عام 1623..استقطب كل هؤلاء الفلاسفة افكارهم واستنبطوها من بوليتايا. لكننا لا نستطيع القول بان بوليتايا هي طوباوية بالرغم من تفسيرها هكذا لدى بعض المفكرين مثل كادامر 1983 او فلاشر 1988. لكن من يقرأ بوليتايا يستنتج نوعا من الواقعية والاندفاع نحو الاصلاح والتحرر من النظام الديمقراطي السياسي الاثيني: أفلاطون يطالب بسلطة العقلاء، بوحدة السلطة مع العقلانية، المساواة بين الرجل والمرأة وهذا امر لم يكن عاديا لدى المجتمع الاثيني، بل اكثر من ذلك انه يطالب من الطبقة المتميزة والحاكمة بان تعيش حياة على النمط الشيوعي! اليست هذه المطاليب حديثة في عصرنا؟ لنقارن هذه المطاليب ببعض دساتير الدول المتحضرة مثل المانيا: نظام المانيا تتوحد فيه السلطة مع العقلانية في التصرف السياسي وتحديد التوجه والاهداف باخذ النظر عبر التفاهم المشترك في رسم خارطة السياسة الالمانية مع باقي الاحزاب بلا تمييز او تفرد بالسلطة. المساواة بين المرأة والرجل أمر مازالت نساء المانيا يكافحن من اجله. فبالرغم من وجود مساواة واسعة الاتجاهات بين المراة والرجل لازال سوق العمل يحتكره الرجل في الوظيفة والمرتب. أما الامر الثالث فان نظام المانيا اجتماعي ويعتمد على توزيع الملك على كل ابناء الدولة بالتساوي وعدم الافراط به. وهذا النظام تحافظ عليه الاحزاب اليسارية. إذاً لا نستطيع القول أن بوليتايا عمل طوباوي. إذاً ما هي بوليتايا؟ هل هي عمل مثالي ام انموذج ام برنامج اصلاحي قابل للتنفيذ على ارض الواقع؟ المثال هو امر متكامل يستطيع المرء ان يفكر فيه ويطمح إليه لكنه لا يستطيع ان يطبقه واقعيا. قد تكون بوليتايا انموذجاً، او صورة مصغرة في السماء كي يحتذي بها كل رجل سلطة يطمح إلى الدولة الافضل على الارض. أذاً فهي تجسد ما وراء الصورة، الميتافيزياء المتكاملة الابعاد والاهداف. اما مضمون ما جاء في بوليتايا قد يعتبر برنامج سياسي اصلاحي يحتوي على العديد من الاقتراحات والمشورة التي بلا شك قد يفيدُ منها رجال الدولة. لقد خلّدَ ملك بابل حمورابي مواعظه وأفكاره على مسلته وها هو إفلاطون يثبّتُ ويرسخ القيم المطلوبة في التصرف السياسي وبناء الدولة الامثل بكل واقعية ودقة كي تبقى بوليتايا مصدراً أساساً للبحث عن النظام السياسي الامثل للدولة والمجتمع. العدالة هي اهم محتوى بوليتايا أو لنقل إنَّ كل ما يتناوله العمل العملاق هو البحث عن إمكانية إسعاد الانسان. أفلاطون ينقل حوار سقراط على ان الانسان العادل هو اسعد المخلوقات البشرية. وكما يطالب سقراط بالعدالة الانسانية طالبها من قبل ملك بابل حمورابي (1792 – 1750 ق.م.) وجسدها بقوة السلاح كما ثبتها في 282 مادة قانونية على مسلته. لكن الفرق بين العدالتين تكمن بان عدالة حمورابي كانت جزءاً من منظومة مطبقة على الدولة والمجتمع أما عدالة أفلاطون فهي دعوة لأعادة النظر في التكوين الفكري والخلقي للانسان، لمواطن اثينا كونه نائباً في الجمعية الوطنية. 

التكوين:

تتكون بوليتايا من عشرة كتب. يصطدم أفلاطون في الكتاب الاول (ثرازوماخوس) مع السفسطائيين مرة اخرى ويطرح بقوة معنى العدالة في الفسلفة والسفسطائية. بينما ينفرد في الكتاب الثاني وحتى الرابع في تكوين وتنظيم الدولة العادلة التي يربط قوتها وإتساعها بصفات الروح البشرية ونموها. أما الكتاب الخامس وحتى السابع فيروي الاسباب الفلسفية لتكوين الدولة. يختتم أفلاطون عمله بالكتب ثمانية إلى عشرة في طرحه نظرية الدساتير غير العادلة والتي يضعها على بعد من مدينته العادلة. يعد الكتاب العاشر ملحقا يبين فيه أفلاطون أن العدالة والسعادة هما وجهان لعملة واحدة.

الكتاب الاول: ثرازوماخوس (Thrasymachos)

يتناول محتواه حوارات ساخنة بين سقراط والسفسطائيين في تفسير معنى العدالة. تتكون لدى مفاهيم المتحاورين ثلاثة معانٍ لماهية العدالة. يتناول الحديث الاول مع كيفالوس التاجر الثري والمؤمن بالالهة عن ان العدالة يجب ان تكون متناسقة مع حياة الانسان ووظيفته. يقول كيفالوس: "العدالة هي الحقانية وإسترجاع كل ما يعطى للانسان. والحقانية، اعني هنا، بأن كل تاجر عليه ان يكون صادقا تجاه نفسه وتجاه الاخرين إذ لا يمارس التحايل والغش وخداع زبائنه، كي لا يبقى هذا الانسان مديونا بحق ما للاخرين." لم يكتفِ سقراط بهذا التعريف لمعنى العدالة لان كيفالوس لم يذكر في مقاله ما هو فعلا نافع وما هو ضار للانسان كي يسترجعه. على سبيل المثال: هل نستطيع إعطاء السلاح للمختل عقليا حتى لو كان هذا السلاح ملكاً للمُعاق؟ هل نستطيع ان نعطي السلطة لانسان جاهل او مجرم حتى لو كسبها بقوته واستحوذ عليها؟ هنا نطرح السؤال: ما هو حق الانسان في الملكية؟ ومتى يستطيع الانسان أن يقول بان هذه الحاجة اصبحت ملكا له؟

يحاول بوليمارخوس، ابن كيفالوس ان ينقذ الطرح ويضيف: "العدالة يا استاذ سقراط هي المنفعة للصديق و الاذية للعدو". فيجيبه سقراط: "إذاً فانت تعرف من البداية من هو الصديق ومن هو العدو؟ كيف حددته؟ وماذا لو تبين لك بان الصديق هو في الحقيقة عدوٌّ مبطنٌّ؟" من الواضح هنا بأن أفلاطون يستذكر مصير بوليمارخوس الذي تم اعدامه خلال حقبة الثلاثين طاغية عام 404 ق.م. ويبين من خلال هذا الحوار ان ابن الرجل الثري اخطأ اختيار الصديق فوقع في فخ العدو المبطن. يؤكد أفلاطون ايضا بأن الدولة عليها ان تميز بحكمة كبيرة بين الصديق والعدو كي تحافظ على سلامها وأمنها الداخلي. وإذا ما وضعنا أمام عيوننا عهود الجمهوريات الاربع في العراق ما بين 1958 و حتى 2003 لوجدنا أنَّ جُلَّ هذه الجمهوريات أخطأت تعريف الصديق والعدو والتمييز بينهما لذا فأنها انهارت واحدة تلوَ الاخرى على إثر الانقلابات والمؤامرات والتصفيات. لكن سقراط يركز على أن من غير المعقول أن تكون العدالة مسيئة للانسان.

يتدخل السفسطائي ثرازوماخوس ويقول: "العدالة هي منفعة الاقوى (kreittonos sympheron)". من هو الاقوى؟ انه يحدد القوي بالسلطة الحاكمة. والعدالة هي كل ما يفيد المحكومين، اي الشعب. لا يهم ثرازوماخوس النظام السياسي أكثر من نظرته إلى المنفعة الذاتية والشخصية منه. كما الحاكم ، فالشعب يبحث عن منفعته الفردية. هنا يطبق ثرازوماخوس ما قاله كاليكليس بان القوة هي حق طبيعي. إذاً فان ثرازوماخوس لا يرغب في القول بأن على العالم ان يكون منفعياً بل انه بالفعل منفعي و منذ ان خلقت الطبيعة وحق الضعيف يأكله القوي لان الكل يبحثون عن مصالحهم وعن منافعهم. إنه يطالب بالاعتراف بالواقعية. يظهر لنا جليا بأن ثمة فلاسفة ورجال دولة سوف يطبقون ما يصر عليه ثرازوماخوس وعلى رأسهم نيكولو ميكيافيلي. يجيبه سقراط: "إسمع يا بني، الفن الحقيقي في الاداء والتطبيق والتصرف هو أسمى منافع الحياة. ففن الطبيب يكمن في إراحة المريض. الطبيب الجيد هو من يشفي المريض. والسياسة كالطبيب ، من يفهم فنون الحكم يفيد مصالح المحكومين وليس مصالحه الشخصية." يجيبه ثرازوماخوس: " لكن الراعي لا يرعى الاغنام بلا منفعة شخصية. إنه يرعاها كي يجرد صوفها او يذبحها. وفي كلا الحالتين ينتفع من رعيته. وكما الراعي السياسة، مثلها مثل الراعي، انها فن تجريد الصوف من الاغنام او فن ذبحها. وفيما يخص العدالة فإني ارى ان العادل يتأثر سلبا من غير العادل. الاول يدفع ضرائب اكثر ويتخلف عن اموره الخاصة وإذا كان يتقلد منصبا في الدولة يكون انسانا غير محببٍ لزملائه لانه لا يدافع عن منافعهم، بينما الثاني يأخد ما يستطيع اخذه. وهنا يكمن الفن في الاستحواذ. من ياخذ القليل لا يفهم فن الاستحواذ ويقال عنه لص، سارق، مارق. أما من يأخذ كمية اكبر، مثلا، يستحوذ على أموال الشعب ثم يستعبد الشعب، ذلك هو من يفهم الفن ويصبح انسانا شريفا ذا مكانة رفيعة في الدولة." يقتطف الكاتب الالماني بيرتولد بريخت هذا الطرح في سؤاله الناقد: "ماهي قيمة ديترش مقارنة بسند مربح، ما هي قيمة سطو على مصرف مقابل تأسيس مصرف؟" كما يتسائل الفيلسوف نيتشه (1844-1900): "أين تكمن قيمة الانسان في دولة يطغي عليها طابع الجشع والطمع من قبل الطبقة الحاكمة، دولة بلا ثقافة ولا قيم يحكمها الانانيون الاثرياء؟"

ينتهي الحوار بين سقراط وزملائه الثلاثة بأن لا إمكانية لأية جماعة في العيش بلا عدالة حتى لو كانت هذه الجماعة عصابة إجرامية. يستوجب على الجميع الحفاظ على نظامهم الداخلي كي لا يرتخي تعاضدهم. ويؤكد أفلاطون بأن هذا الحال ينطبق أيضا على الروح البشرية. إذ انها لا تستطيع الاستمرار في الحياة في ظل عدم تماسكها وتناغمها فتتلاشى طاقاتها المنجزة ومعها كل الفضائل.

  

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org