|
مقالات اللغة ليست مجرد وعاء انها تجسيد ايضا للثقافة ذاتها ..
هايل علي المذابي – اليمن ينشأ الشعر حيث تنفتح مغالق النفس بالحنين، والشوق، والذكرى والحماسة، والمثال.. •تندفع الخطابة ساعة يدعوموقف خطير إلى التحول والتشبث والاحتدام. •تنموالكتابة في مناخ استقرار الأمة، وانتظام أمور الدولة، وازدهار حقل الثقافة.. فتجئ الرغبة في الترسل تلبية لدواعي المدنية، وتسجيل وقائع السلطة، وتأمين الاتصال بمختلف القطاعات وتعبيراً عن الخواطر والتأملات الذاتية في المجتمع والكون.. لذا بدا طبيعياً أن يتدرج الأدب العربي زمنياً بنشأة الشعر، فالخطابة، فالكتابة تبعاً لتدرج الشعب العربي من الطفولة فالمراهقة، فالشباب.. •الشعر يقتضي تفجر مشاعر، واندياح خيال... •الخطابة تستدعي إقناعاً، وتوجيهاً في موقف خطير.. •الكتابة نتيجة نضج عقلي، وتسلسل منطقي، واختمار ثقافي.. •ثمة عوامل حضارية وفكرية واجتماعية لها علاقة بتطور نوعية الكتابة وازدهار أساليبها، وكل هذه العوامل ليست بمعزل عن ظروف الحياة الإنسانية المحيطة بها، بل إن ارتباطها بواقع الحياة الاجتماعية أمرٌ بالغ الوضوح.. * * * إن المتأمل لتطور الكتابة العربية خلال القرن الأخير يلحظ ذلك التنوع الهائل في الأساليب ومفاهيم البلاغة والتزيين ودرجات التكرار، والمبالغة، ونوعية الصور والرموز وتقلص الفجوة بين لغة الكتابة والكلام، بل إن هناك ميلاً واضحاً نحوالدقة والاقتضاب في الكتابات الجديدة.. • إن لغة جيل النهضة الأول من ناصيف اليازجي وبطرس البستاني والطهطاوي، تختلف عن جيل مطلع القرن من أمثار جبران ونعيمة وغيرهم، وكلاهما يختلف اختلافاً شاسعاً عن لغة الجيل الحاضر . • اللغة كلما تغيرت- نتيجة تفاعل عوامل معينة في أي عصر – تغيرت بالتالي وطبيعياً علاقة الإنسان بها، وقد نشأ ميل واضح للابتعاد عن الذرائعية التزيينية من أجل ذاتها، والاقتراب من الذارئعية القائمة على المنهجية والاقتضاب والدقة في أداء المعاني، والتنوع بتنوع الاختصاصات.. وعلى الرغم من أن العرب لا يزالون يميلون إلى التعبيرية شأنهم في ذلك شأن سائر شعوب العالم الثالث، إلا أن الكثير من التعميمات المبسطة التي يطلقها بعض المستشرقين تنم عن جهل بتطور علاقة العرب بلغتهم.. ومن هذه التعميمات على سبيل المثال: -يقول باحث نفسي هواي شوبي (E. Shauby) في مطلع الخمسينات أن "الأفكار التي تعبر عنها اللغة العربية هي أفكار غامضة ويصعب تحديدها.." وأن هناك نزعة في التبعير العربي "تجعل الفكرة تتناسب مع الكلمة.. بدلاً من جعل الكلمة تتناسب مع الفكرة فتصبح الكلمات بدائل للأفكار وليس تمثيلاً لها..". وأن النزعة التحليلية ضعيفة في الثقافة العربية فيجري التشديد على الأصوات، ويقرأ الإنسان في اللغات الأوروبية كي يفهم، أما في العربية فالإنسان يجب أن يفهم كي يقرأ".. وتملتئ اللغة العربية بصيغ التوكيد والمبالغة.. والتشديد على التفاصيل دون إعطاء صورة منظمة ومفهومة للكل، فإذا قال عربي ما يقصد تماماً دون المبالغة المعهودة قد يفكر العرب الآخرون أنه يقصد العكس.." -وتتكرر مثل هذه التعميمات المجحفة التي تقرب من "العنصرية" في كتابة عدد من الصهيونيين الذين دأبوا على تشويه صورة العرب وثقافتهم في الغرب، يقول أحدهم مكرراً التعميمات نفسها ومحاولاً التأكيد على أن من سمات العقل العربي أنه يؤخذ بالكلمات أكثر من الأفكار، والأفكار أكثر من الحقائق..، وهناك أيضاً محاولات للنيل من الثقافات غير الغربية.. فتقول مجلة التايم في مقاله لها حول العقلية الآسيوية – ما مؤاده.. " أن الآسيويين بشكل عام قادرون على الاعتقاد أن الشيء ذاته في آن معاً جيد وسيء، صواب وخطأ، أسود وأبيض، قريب وبعيد، وبأسلوب يذهل العقلية الغربية.." وقبل أن نأخذ هذه التعميمات بالنقاش أود أن أضيف شيئاً من كلام بعض المتجرئين على الثقافة العربية والعقل العربي عن اللغة العربية والتي يزعمون أنها لغة شائخة منزوفة الطاقة والمائية، لا تنهض بفكر، ولا تجري في مضمار الحضارة إلى غايتها حتى تلهث، ويبطلُ فيها نبض الحرف، وهي عند آخرون لغة جاءت والصعوبة على موعد، فالقاعدة فيها عصية لا تلين، والقانون النحوي إدراكي مثقلٌ لا يتفق والاستجابات العفوية، وبعضهم يقول أنها لغة مريضة عقيمة، والكثير الكثير من الانتقادات القاصرة المبنية على قواعد من الجهل والتي لا يتسع المجال لذكرها.. إن هؤلاء المتعجرفون وأمثالهم من كسالى العقول ومتخلفوا الفكر لم يعرفوا ولم يكلفوا أنفسهم مشقة السؤال عن سبب إنزال الله القرآن باللغة العربية؟! هذا من جهة ومن جهة أخرى لم يكلفوا أنفسهم مشقة الإطلاع على الكتب العربية في اللغة ككتب ابن جني وابن فارس والأصمعي والأنصاري والسيوطي وكتب الخليل.. وغيرها من الكتب التي تناولت ما ذكروه واتخذوا منه حجة على الثقافة العربية وعلى العقل العربي.. إن الله سبحانه وتعالى عندما أنزل القرآن جعل أول آية تنزل هي "اقرأ" ولم يقل افهم ثم اقرأ، وحيث أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أمياً فالخطاب كان عاماً شأنه في ذلك شأن بقية أغلب آيات القرآن الكريم.. وإن صح شيءٌ مما أورده أولئك المتقحمون على الثقافة العربية والعقل العربي فإنما هونتاجٌ لجهل العرب بلغتهم الأم وخصائصها وسمات لغة القرآن وجهلم أيضاً لقواعدها ومميزاتها فتبع ذلك سوء الفهم لها والمعاداة لها والفرار منها نحوالعامية بالشكل الرئيسي فرار الصحيح من الأجرب والعاقل من المجذوب. وبهذا أصبحت معرفة العرب للغتهم قبل معرفة المستشرقين والصهاينة معرفة سطحية، ونتيجة لهذه الأخيرة تولد العجز عن الرد على جميع الطاعنين في لغة القرآن وفي العقل العربي... وفقدان المعرفة يولد فقدان التعريف وكما نعرف أن فاقد الشيء لا يعطيه.. -إن من يتابع التعليقات الغربية سواء التي تم إيرادها آنفاً في موضوعنا وغيرها سيلاحظ أنها – أي التعليقات – تصف السلوك ذاته سيئاً إذا قام به الآخرون، وجيداً إذا قاموا به هم.. إن حروب التحرير في تاريخ الغرب بطولة، وإرهاب إذا قامت به إحدى شعوب العالم الثالث.. وقد أورد شوبي الرواية التي تقول أن قاضياً عربياً فقد منصبه لأن سيده أراد أن يتلاعب بالكلمات "أيها القاضي بقم قد عزلناك فقم.." وهم يتخذون من ذلك دليلاً على مقولتهم بأن الكلمة عن العرب بديل وليست تمثيلاً للشيء والفكرة. وجاء في جريدة الواشنطن بوست أن أحدهم واجه محامياً بعد أن أنهى دفاعه بأنه كان متناقضاً مع نفسه فأجاب ذلك المحامي.. "ليس المهم التناقض المهم هوأن نربح القضية.."(1 ) ماذا يقول الأمريكي لوقيل له بناءً على هذه الحادثة أن الثقافة الأمريكية تعتبر أن الغاية تبرر الوسيلة.؟! إن الثقافة العربية تشمل إتجاهات مختلفة متناقضة، ففي بعض الحالات تغلب النزعة التعبيرية فيقول العربي .." حلاوة الإنسان في حلاوة اللسان" إنما في حالات أخرى فقد تغلب النزعة الذرائعية فيقول العربي نفسه "إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب" وكثرة الكلام خيبة، وقلته هيبة" و"من كثر كلامه قل احترامه" و" البلاغة ما قل ودل" ، وكما يكون الكلام غامضاً وتزييناً في بعض الحالات، يكون واضحاً مقتضياً في أداء رسالته في حالات أخرى، وكما يؤخذ العرب بالكلمات (شأنهم في ذلك شأن سائر الشعوب)، يؤخذون أيضاً بالأفكار والحقائق. وإذا ما غلبت ناحية على أخرى، فإن ذلك يتم نتيجة لقوى وأوضاع ومناسبات تصدق على جميع الثقافات، ولا تكون الثقافة العربية استثناء . وكما يسحر العرب باللغة، كذلك تسحر سائر الشعوب في ظروف مماثلة.. إن اللغة في مختلف الثقافات ليس مجرد وسيلة ووعاء، إنها أيضاً تجسيد للثقافة ذاتها.. -------------------------- هامش: (1) انظر: (Washington post(3/May/1981) .
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@brob.org |