|
مقالات نفحات ابن الناصرية في السيرة العلوية
د. نضير الخزرجي فيما مضى، كانت العتبات المقدسة في العراق، تفتح أبوابها للزائرين والموالين منذ الصباح حتى المساء، حالها كحال بقية المساجد والجوامع، حينها كانت العتبات واقعة تحت مسؤولية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ولم يختلف الأمر كثيراً بعد عام 2003م، فهي واقعة من الناحية الرسمية تحت إدارة ديوان الوقف، وتفتح أبوابها للموالين والمحبين في أوقات محددة، لكن ما يميز واقع العتبات المقدسة في المرحلة الجديدة أنها بدأت تأخذ دورها الثقافي والإعلامي والتربوي والتوجيهي المنشود، وخرجت عن أسر الواقع الرسمي الحكومي حيث كانت السلطة الحاكمة تنظر إليها كمنجم ذهب يمول ميزانية الدولة، بخاصة وأن الزائرين كتعبير عن حبهم وتقديرهم لصاحب المقام يتبرعون بما تجود به أياديهم البيضاء فقيرهم قبل غنيّهم، فتذهب الأموال إلى خزينة الدولة من غير أن تشهد المقامات إعماراً حقيقيا، بل أن السلطات كانت تعمد إلى عدم إكمال الإعمار أو الترميم كمحاولة لاصطياد جيوب التجار في العراق وخارجه، الذي تأخذهم الغيرة بالكرم فيقدمون على المزيد من التبرع، أي محاولة للإبتزاز المقنع من خلال استدرار عواطف الموالين وجيوب المحبين! وها نحن اليوم نشهد الإعمار في المراقد المقدسة في طول العراق وعرضه، مما يكشف عن حجم الميزانية الكبيرة التي ذهبت إلى خزينة الدولة في العقود الماضية، ولما كان الإعمار لا يتوقف على البناء فحسب، فهناك إعمار النفوس والعقول، فان السياسة المتبعة في العتبات المقدسة في تنشيط الجانب الثقافي والإعلامي يعد من أبرز ملامح المرحلة الجديدة في عراق اليوم، ويعكس الدور الحقيقي لها في بث الوعي الثقافي والسياسي ونشره، وعدم الاقتصار على الجوانب المعنوية والعبادية فحسب، وإن كنت أعتقد أن نشر العلم النافع من أرقى معاني العبادة والتقرب إلى الله وتجديد البيعة والولاء. وفي هذا الباب ينشط قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبات المقدسة في كربلاء، في تفعيل الواقع الثقافي والفكري، من خلال فعاليات ثقافية وفكرية وإعلامية مقروءة ومسموعة ومرئية، ومنها التصنيف والتحقيق وتشجيع الطاقات الكتابية على التأليف وتبني طائلة الطبع والتوزيع، وهذه مهمة جديدة لم نألفها من قبل، تعطي للتبرعات ونماء الوقفيات قيمة معنوية ومادية ملموسة، وهو في الوقت نفسه ترشيد للأموال بما فيه صالح الأمة وخير المتبرعين. وتحت يدي كتاب "الإمام علي نموذج الإنسانية" لمؤلفه المبدع صباح محسن كاظم، وهو واحد من إصدارات قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية بكربلاء المقدسة، فالكتاب الصادر حديثا (2009م) في 227 صفحة من القطع الوزيري، يعكس حجم الجهد المعرفي الذي بذله ابن مدينة الناصرية العراقية في توثيق المعلومة التاريخية، ويعبر في الوقت نفسه عن حرص الناشر في تقديم مؤلفات تركن إلى التحقيق والتدقيق بعيدا عن الإنشاء والعواطف المجردة، كما نراها عند بعض الكتاب الذين يجيدون تجميع المعلومات ولا يحسنون التحقيق فيها ويطلقون سهمها من وتر الرواية لا منزع الدراية. فالكتاب الذي جاء في أربعة عشر بابا يمثل سيرة ذاتية ميسرة للأنزع البطين الإمام علي بن أبي طالب (ع)، اختار المؤلف من السيرة والترجمة الذاتية ما يراه مناسبا وصحيحا، مع حرص شديد لاختيار النصوص التاريخية وردها إلى أمّات المصادر والمراجع القديمة المعتبرة والمقبولة من لدن المدارس الإسلامية الفكرية المختلفة. فالأبواب حملت فوق ناصيتها العناوين التالية: ولادته، شجاعة علي، الإمام علي والخطابة، أعداء الإمام علي، الإمام علي وعائشة، زوجات الإمام علي، نواهي الإمام علي، الإمام علي والزهد، الإمام علي والعدل، قالوا في الإمام علي، متى بدأ التشيع؟، واقعة الغدير، من خطب الإمام علي وحكمه، وشهادة الإمام علي. فالنصوص كما جاء في إهداء الأستاذ صباح محسن كاظم، الكتاب لصاحب هذه الكلمات (نفحات نورانية من شذرات وقلادات الأنوار العلوية المقدسة)، تناول فيها المؤلف الحوادث التاريخية ووقف عند بعضها وقدم فيها وجهة نظره مستعينا بحوادث التاريخ نفسه، أي انه استخدم المنهج التاريخي في متابعة السيرة الذاتية وتحليل الوقائع والنصوص. فالترجمة الذاتية للوليد في بطن الكعبة والشهيد في محراب الكوفة، كتاب مفتوح لا تحده دفّتان، تضيق به المجلدات ولا تبلغ معشار سيرته، فيكفي أن كلماته وخطبه لوحدها حارت بها الألباب وسجد على عتبة مفرداتها أرباب القلم وسادة الكَلِم، فهي دون كلام الرب وفوق كلام المربوب، ولذا فلا عجب أن أظهر زعيم البوذ الدلاي لاما أسفه وحسرته كون البوذ يفتقدون كتابا يستثير دفائن العقول كنهج البلاغة، ولا يملكون واقعة تستثير عصارات العواطف كواقعة كربلاء، ولذلك يقر على نفسه انه: (إذا كانت لدينا نحن البوذ شخصيات مثل الإمام علي والإمام الحسين، وإذا كان لنا نهج البلاغة وكربلاء فإنه لن يبقى في العالم أحد إلا ويعتنق العقيدة البوذية، نحن نفتخر ونعتز بهاتين الشخصيتين الإسلاميتين)، فهو على دراية كاملة أن طائر الإنسانية يحلق بجناحي العقل والعاطفة، وأن قطبي العقل والعاطفة ينيران دائرة الحضارة، وكتاب (الإمام علي نموذج الإنسانية) ريشة من هذا الطائر ومصباح من هذه الدائرة.
|
| ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@brob.org |