جيــــران القبـــور

 

• تزوجت في المقبرة وودعت ابنتي عروساً منها

• أسمعه يناديني من قبره ويتحدث معي ويغطيني أثناء النوم

• عمري (22) عاماً ودفنت (500) ميتاً

 أحمد إبراهيم السعد / بنت الرافدين

في عالم الأحياء يبقى الموت حقيقة حتمية غير ان الساعات او اللحظات التي يودع فيها المرء دار الحياة سر لا يعلمه الا الله وهذا ما يؤرق الأنسان منذ الأزل ويدفع بالكثير منهم الى الخوف من ذكر الموت او المقبرة بل ان كثيرا ًمن الناس يتحاشون المقابر لأنها تذكرهم بتلك الساعات الرهيبة الا ان الناس قد تضطرهم الظروف الى زيارة تلكم الأماكن وقد يصادفون أشخاصاً يتخذون من المقابر مكاناً للعمل.

(غنية صبري عليوي) 65 عاماً آثرت العيش في المقبرة مفضلة اياها على بيتها في منطقة (الدير) وترك بناتها القُصَّر الثلاث وزوجها المصاب بمرض السكر والقلب، كل ذلك من أجل أن تكون بجوار قبر ولدها البكر الوحيد (جمال) في مقبرة في النجف الأشرف، حيث شيد للقبر غرفة كبيرة (5×5 متر) تغطي جانب من جدرانها صور جمال حسب مراحل عمره فيما تنفرد صورة له على جدار آخر وهو يرتدي بزة عسكرية تلتمع على أكتافها ثلاث نجمات، وكتب تحت الصورة (الشهيد البطل جمال عبد الغني باقر الأسدي وافاه الأجل في معركة المحمرة) .

في غرفة القبر هذه يمكنك أن ترى ثياب جمال المدنية، وفرشاة أسنانه، وأدوات حلاقة ذقنه لو سمحت لك ألأم المهووسة بحب ابنها أن تفتح ادراج الدولاب الخشبي ذا الثلاثة أبواب... تجد أشياء كثيرة تخص أبنها منذ موته في 9/2/1981 منساقة إلى وهم مفاده انها تلتقي ابنها روحياً تقول: "اسمعه يناديني، ويتحدث معي، ويغطيني أثناء النوم كذلك يطلب مني أحياناً أن أطهو له ما يحب من الطعام"، وكنت أتحرج من سؤالها حول ما اذا كانت تتخيل هذه الأشياء ام تحلم بها تركت مثل هذا السؤال لانه قيل لي انها ترفض مثل هذا التساؤل وتنتفض غاضبة بوجه من يبادر بمثله.

تقول ابنتها زينب: "توصلنا أخيراً الى إقناعها أن تبقى في غرفة القبر أسبوعا من كل شهر، برغم أن وضعها الصحي لا يسمح لنا بتركها يوماً واحداً.. ونحن بناتها بصراحة نخاف حد الجنون من المبيت معها حتى لو كان قبر أخينا جمال".

لم تكن (أم جمال) هي جارة القبر الوحيدة في العراق، بل هي المتميزة بعاطفة الحب الأمومية التي نقلتها من السكن بجوار أحبائها الأحياء إلى الإقامة الاختيارية بجوار قبر ابنٍ مات.. أما جيران القبور المختلفين عنها فهم من ضاقت بهم المعمورة وجعلتهم يختارون القبور سكناً لهم في ظل الأزمة المستعصية للسكن في العراق.

(عباس فاضل صيهود) 57 عاماً متزوج ولديه ستة أبناء، عاش ردحاً من الزمن في بحبوحة لا بأس بها من العيش كونه كان صاحب محل كبير للمواد الإنشائية، مع عمل إضافي هو بيع وشراء العقارات يقول: "كان همي ينصب في زيادة وتنمية رأس مالي التجاري الأمر الذي حال دون التفكير بشراء بيت لعائلتي، وبقيت على هذه الحال حتى اصابني ما أصاب اكثر العراقيين ابان الهبوط السريع للدولار تجاه الدينار في سوق الصرف عام 1995 مما أضطرني للسكن داخل غرفة من الطين في مقبرة". خسارة (عباس فاضل) أخذت بالأزدياد حيث طلبت زوجته الطلاق، ومات أحد أولاده بحادثة دهس، وخلف هذا الأسى في جسمه مرضاً عضالاً. لكن وبرغم كل هذا بقي يصارع الحياة بشعور منكسر،يقول (عليَّ أن أبحث عن زوجة جديدة تتقبل حياتي الجديدة داخل المقبرة).في الوقت الذي يفكر جار القبور هذا أن تزف له عروس داخل المقبرة ؟!! خرجت (فاتن) بنت التاسعة عشر عاماً عروساً من مقبرة الكنيسة الكلدانية، تاركة أماً لم تشهد البهجة في حياتها، كذلك ثلاثة أخوة هم (علي، وجواد، وحنين) صورت كاميرا فيديو وجوههم الكالحة والتي لن تستطيع ابتسامتهم البريئة محوها، وملابس قديمة،. أجواء هي اقرب ما تكون الى الأجواء الحزينة التي تلف القبور ... غادرت (فاتن) المقبرة غير آسفة عليها لترى حياة جديدة كتبت لها... هذه الشابة فطنت وهي تعيش بين الموت والقبور المحفورة بمجرفة أب ترك بصماته على مقبضها التي تركها لابنه (علي) بعد أن مات ليدفن في مقبرة أخرى يقول علي (أنا أصغر دفان في العالم عمري (20) عاماً ودفنت أكثر من (500) ميت لم تكن مهنة وراثية مفيدة ومفرحة بقدر ما هي هم ثقيل اجبرتنا ظروفنا الصعبة على امتهانها لنضمن بقاء عائلتنا في المقبرة داخل غرفتين من الطين تفتقر إلى أبسط المستلزمات تقول الأم (رضية مهلهل محمد) التي عاشت في هذه المقبرة المسيحية الكائنة في مكان ما من اماكن البصرة التي يلفها الصمت قرابة الـ(27) عاماً (بعد موت زوجي لا أستطيع أن أعيش بعيداً عن المقبرة ... وهل تصدق لو قلت لك أن مجاورة القبور جعلت مني إنسانة تعيش في الحياة بجسدها فحسب؟)

تقوّت رضية أم علي أبنائها من راتب شهري قدره (25,000) دينار خصص لها من قبل القائم على الكنيسة، فضلاً عما يجود له زوار القبور الذين وصفتهم بأنهم كرماء معها في العطايا.. أما المال الذي يحصل عليه لقاء حفر القبر وترتيبات الدفن والذي لا يتعدى الـ(10,000) دينار فهو غير مضمون دائماً، يقول علي: (قد أحصل على هذا المبلغ أكثر من مرة في الشهر الواحد وأحياناً لا أحصل عليه لمدة تتجاوز الستة أشهر.. فهذا حال من يحدد رزقه الموت).

طرقت الأم المبتلية بسوء الحظ باب الرعاية الاجتماعية بغية الحصول على راتب الاستحقاق المخصص لذوي الظروف الصعبة، وكبار السن وأصحاب العوق المستديم، لكنها عادت بخفي حنين خائبة منكسرة إلى مملكتها بين القبور، قالت: (الفقراء أمثالي لا يمكنهم الحصول على راتب الرعاية الاجتماعية) ثم استأنفت حديثها بعبارة فيها الكثير من الحكمة حيث قالت: (يا ابني، الفقر عورة مشينة علينا أن نكرمها بالستر) وبخصوص ذكر الستر حدث أن ربت الشاب (علي) على ظهري وأنا أهم بمغادرة المقبرة ليحملني معاناته واهله الى المسؤولين في الدولة، أن ينظروا بعين الرأفة لشاب مثله يحلم في سكن متواضع والزواج من فتاة لا يريدها أن تكون جارة للقبور!

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com