هناك
ازمنة تضرب جذورها في أعماق الحياة وتتمفصل مفاهيمها في الجسد المعرفي
للمجتمعات كزمن يسمى بـ "الجاهلية"...
فنحن وفي الألفية الثالثة مازالت الكثير من معالم الجاهلية تضرب جذورها في
اعماق حياتنا وتكتنف تصوراتنا لتتحكم في سلوكياتنا وتمسي جزءاً من ثقافتنا
ومنها حب العائلة للذكر وتفضيله على الانثى. فإن بشر أحدهم بالانثى عبس
وتولى وكظم غيظه وربما انفجر رعداً وبرقاً وقد ينزل الغيث أيضاً!!
السيدة أم خضير ذات الخمسة والستين عاماً والأم لخمسة ذكور وبنتين قالت
عندما سألناها: أيهما تفضلين الولد أم البنت: (الولد ينحب أكثر، انا منذ
كنت صغيرة لا احب البنات ولكن عندما اصبح عندي بنات احببتهن.
واظن ان هذا بتأثير أمي ـ رحمها الله ـ فهي قد فضلت الاولاد علينا في كل
شيء حتى في الاكل، فكانت تقدم لهم في الصباح صينية البيض والقيمر والمربا
وكانت تمنعنا من الجلوس مع اخواني على سفرة واحدة، هم يأكلون لوحدهم!!).
السيدة ماجدة المرعب (47عاما) أم لاربع بنات وولد واحد قالت: (عندي ولد
واحد وحصلت عليه بصعوبة لذلك فهو عزيز جدا ولكني لا افرق بينه وبين أخواته
في المعاملة، امي أيضاً لم تفرق بيني وبين اخوتي ابدا، نحن ثلاثة اولاد
وبنتان، عندما جئت إلى الدنيا يقال ان ابي زعل وترك البيت ولكن عندما كبرنا
لم يفرق بيننا واهتم بنا... ولكن أهلي لم يهتموا بتعليمي أنا وأختي، وهذا
يؤلمني الآن كثيراً). وعندما سألتها: (وزوجك ايهما يفضل؟!)، ابتسمت السيدة
ماجدة وقالت: (الولد طبعا... ابني جاء بعد ثلاث بنات، وزع زوجي الحلويات
على المحلة والسوق وكان يحمله معه ويأخذه إلى حيث يذهب ويبقى الولد شيء
آخر).
وعندما التقينا الآنسة ساجدة حميد (40 سنة) تعيش في بيت أبيها مع اخيها
المتزوج وتوزع وقتها ونشاطها ما بين اولاد اخيها واولاد اختها، اخبرتنا
قائلة: (أحب البنات أكثر، كما ان تربية البنات لها اجر كبير، أختي عندها
أربع بنات وأخي الذي اعيش معه عنده ثلاث بنات، البنت بطبيعتها حنينة، انا
كرست حياتي لمداراة أبي، فبعد وفاة أمي وزواج اختي بقي والدي لوحده وقضيت
خمسة عشر عاما في تمريض والدي والأهتمام بشأنه حتى توفي...)، وعندما
سألتها: (في رأيك لماذا الولد مفضل على البنت في مجتمعنا؟)، أجابت: (لان
هناك تصوراً ان الولد يفيد في الكبر ويحمل همّ ابويه ويكون سنداً لهما في
الشيخوخة اما الفتاة تتزوج وتذهب إلى الغير).
الاستاذ خيري ابو احمد (47 سنة) والد لأربعة ذكور وبنت واحدة قال: (لو نأخذ
السؤال بمنظار سطحي لوجدنا الجواب: الولد أحب لما يمليه علينا العرف العام
أو النظرة السطحية وبالحقيقة لو نقع تحت التجربة العملية كالحالات الطارئة،
مرض أو أية حالة طارئة لوجدنا ان سؤالك يتجسد جوابه بعاطفة ودموع ومحبة
ولوجدنا اننا لا نفرق بين حب أحد ولا نفضل أحدا على أحد).
ودعوني انقل لكم صورة مصغرة عن مجتمعنا الكبير، التقطناها في أحدى ردهات
مستشفى الولادة في محافظة بابل: (وقفت السيدة ام هيام خلف باب صالة الولادة
تذرع المكان بخطواتها المضطربة القلقة، تسأل سيدة اخرى تنتظر هي الأخرى: هل
ابنتك في الداخل؟ وعندما تجيبها: كلا زوجة ابني، تستغرب المرأة وتقول: كم
لديها؟! يأتيها الجواب: عندها بنت واحدة ويزداد استغراب الآخرين عندما تخرج
الممرضة لتخبر أم هيام بقدوم الوافدة الجديدة وتفرح ام هيام شاكرة لله
سلامة الأم والطفلة، وتسمع ام هيام: هل تفرحين ببنت اخرى؟! عجبا، لماذا
الفرح؟! يا للمصيبة بنت ثانية؟!).
وعندما سألنا الجدة ام هيام عن حفيدتها الجديدة قالت: (لماذا لا افرح، هل
أنا خلقتها؟! هل بوسعي خلق يد أم رجل؟! المهم السلامة والعافية والحمد لله
على كل ما يأتي).
تقول لنا الممرضة في صالة الولادة: (القليل النادر هم من أمثال أم هيام،
الغالبية تستاء وتغضب من مجيء البنت خاصة البنت الثانية أو الثالثة، نحن
أيضاً تولدت لدينا حالة نفسية، نخاف عندما نخبر الناس بقدوم الفتاة، أحساس
يشبه أحساس الذنب أو من يخبر بوقوع مصيبة).
الفتاة ضحى فاضل (17 سنة) قالت عندما سألناها عن رأيها: (أنا احب الولد
أكثر، فالحياة التي يعيشها الولد أحلى، اتمنى ان اكون ولداً فهو يتمتع
بحياته أكثر، حريته أكثر من الفتاة يفعل مايريد، يذهب إلى حيث ما يشاء،
والأب يفرح بالولد لأنه سيرث اسمه).
اما الطالبة سارة (21 سنة) في المرحلة الثالثة من كلية التربية قالت: (حسب
اعتقادي ان سبب تفضيل الولد على البنت هو ان الولد يحمل اسم ابيه كما يقال
أي هو امتداد لوالده في الشبه حتى العمل والأخلاق، اما البنت فدورها ينتهي
مع عائلتها بمجرد زواجها وخروجها من بيت أهلها. اعتقد ان هذا هو السبب
الرئيس لتفضيل الولد على البنت في مجتمعنا العربي).
تقول الأستاذة سهام العميد باحثة اجتماعية معللة هذه الظاهرة: (في
المجتمعات الذكورية ـ كمجتمعنا ـ ينشأ التصور القيمي للذكر على حساب
الأنثى، فالولد هوحامل اسم العائلة، وهو أملها في مستقبل حياتها والمعيل
والكفيل ولو دققنا النظر في الواقع المعاش لوجدنا ان البنت هي التي تحمل
اعباء أسرتها وتقف إلى جانبها في المحن أكثر من الولد خاصة عندما يكبر
الوالدان وتشتد بهما الشيخوخة.. وفي الغالب الاسر التي تفضل الولد هي الاسر
التي يكون رب الأسرة قد تعرض في طفولته لتربية معينة أو حادثة معينة هيأته
نفسيا لتصور افضلية الولد ولا فرق في رب الاسرة ان يكون الاب أو الام أو من
يؤثر في مسيرة حياتها).
ومن الطف ما قرأته عن حب الابناء، حديث الاعرابية التي سئلت عن أي ابنائها
احب اليها، اجابت: (صغيرهم حتى يكبر وغائبهم حتى يعود ومريضهم حتى يشفى).
فالظرف الذي يمر به الابن هو الذي يحدد مقدار الاهتمام به ولكن الحب متساوٍ
بين الجميع والعاطفة واحدة فإذا كان غير ذلك فهو خلل في التركيبة المعرفية
واضطراب في الشخصية وجهل في معرفة الحقيقة.
الاستاذة سهام العميد أردفت قائلة: (اليوم وعلى الرغم من وجود المرأة في كل
الميادين مع الرجل وبذلك يمكن ان تكون معين العائلة وسندها، مع ذلك يبقى
الولد هو امل الاسرة إلى الدرجة التي نسمع فيها كلمة (خطية) لمن ترزق
بالبنت).
فهل البنت (خطية) حقا؟!
تقول السيدة سكينة (26 عاما) ام لثلاثة أولاد ذكور: (لا اريد ان أنجب فتاة،
لان البنت مظلومة في مجتمعنا، يؤلمني كثيرا حالها فهي مظلومة في كل
مواقعها، ام وأخت وزوجة حتى في المجتمع مكانتها اقل من الولد.. لا اريد
بنتا حتى لا تكون مظلومة).
ويمكن ان ألخص نظرة المجتمع للبنت في عبارة قالها صبي صغير في الصف الثالث
الابتدائي يدعى عباس عندما سألته: (يا عباس أيهما أفضل البنت ام الولد،
يعني هناك شخص سيأتي له طفل ماذا يختار ان يكون)؟!
اجاب بعفوية وبراءة: (بنت)، وعندما سألته: (لماذا؟)، قال بثقة: (حتى تشتغل
بالبيت)!!
ويحمل الولد هذه الفكرة لتكبر معه وتترتب عليه تصوراته نحو النصف الآخر،
النصف الآخر... الذي يتشدق الجميع بالدفاع عنه والمطالبة بحقوقه... فلا
يوجد كاتب أو مفكر أو مدير مشروع أو مرشح انتخابات الا وحمل شعار الدفاع عن
حقوق المرأة أو المطالبة بحقوقها، وفي هذا بيان يغني عن البيان.. كأنما
لايوجد مظلوم غيرها...
فلماذا نبخس الآخرين حقهم ثم نتعب أنفسنا في المطالبة بهذا الحق؟!
ام هي مجرد شعارات نشعر بها الآخرين باننا أصحاب شعارات!!