المسرحي والشاعر سعيد الوائلي ..
مكاشفة ساخنة على إيقاع دفق الأوجاع
لم
يكن يدور في خلده يوماً أن ينابيع الشعر ستتفجر لديه على حين غرة ليضيء
من خلالها مساحات جديدة من التعبير الوجداني وقد يكون ذلك ليس بالغريب
فمن باستطاعته أن يدعي القدرة على معاينة نفسه داخل إطار مفهوم الأبعاد
، جلي الحدود ، قبل أن يتحقق ذلك بمدى زمني معين؟
من بمقدوره التنبؤ بما سيكون عليه حاله أو كيف سيؤول إليه شخصه من
قوادم الأيام والسنين ؟ فهكذا هو الإنسان مهما بذل ليعكس [ المكتوب ]
أو جهد ليقلب ما هو مقدٌر له أن يصبح هو أشبه بكلام العراٌفات داخل
التكايا والحجرات البيتية المليئة بالنسوة الباحثات عن استشراف ثمة
ملامح لمستقبل مازال مطوياً بخبايا المجهول .
ذلك هو المسرحي والشاعر سعيد الوائلي أحد المثقفين العراقيين المقيمين
في الولايات المتحدة الأمريكية لما يزيد على أكثر من عقد ولدت تجربته
الإبداعية من رحم المسرح لتتشظى شراراتها إلى الفضاء الأدبي الشعري
تحديداً حيث جاشت العواطف الفياضة ، الوطنية الملتهبة في قريحته فأخرج
في دفع وجداني العديد من القصائد التي يتغنى عبرها بالوطن الجريح الذي
تتماوج فيه أهوال عجيبة وتشهد ساحته أحداثاً مضطردة ويمكننا القول أن
ليس من غرابة في أن يتوهج هاجس الشعر لدى الوائلي لأن ثمة بذور للشعر
كانت قد أزهرت ثمارها في شجرة عائلته النجفية العريقة فهناك عمه
الأكاديمي والشاعر د. إبراهيم الوائلي الذي تخرج على يديه عشرات
الأساتذة ومنهم د . عبد الإله الصائغ .
وعن سبب تذبذب مسيرته الفنية والشعرية التي شهدت الكثير من لحظات
الانطفاء والخبو في الداخل والخارج يقول الوائلي [ لقد تحملنا ما
تحملناه من أجل أن لا نكون من المدٌاحين أصحاب النظرة الضيقة ] .
ولكونه أحد أبطال الانتفاضة الجنوب العراقي الباسل إبان عام 1991 فكان
يغني دوماً للأمل الطالع من زهرة الانتفاضة المباركة وعلى الرغم من قصر
مسيرته الشعرية إلا إننا تعودنا منه الشعر الرقيق الدافئ في زمن الصحو
وتعودنا منه الشعر العنيف المقاتل في زمن الفقر والحزن والانكسارات
الأليمة وفيما يأتي من حوار هو خلاصة جلسة فنية أدبية تمخض عنها الآتي
:
* ما هي ملامح تجربتك الشعرية التي تروم بناؤها؟
الشعر بستان صيفي الفصول ، ربيع دائم ، حقوله تتغنى بالحياة
والمعرفة والتراث الإنساني ، طائر محلق في سماء صافية ، عبق النبض
الإنساني المتخم بالحركة والانطلاق والتجديد . غير أن للحياة منعطفاتها
التي من دون شك يغرٌد أثرها على أكثر من صعيد لتترك بصماتها فيما بعد ،
التي لابد وأن تكون واضحة المعالم في تجارب الشعوب . وقد بات في حكم
المؤكد أن المدارس التي تصل أحياناً إلى حد التضارب أو التزاوج فيما
بينها علامات البارومتر يحدد لنا نزعات التجديد في المدارس التي تداخلت
وتمازجت وتصاهرت لتلد لنا تناغماً مذهلاً في القيمة التعبيرية عن روح
العصر في هذا العالم المتلاطم ، ورغم التطور الهائل في كل شيء أجد أننا
نعيش في عالم مختلف تماماً عن كل طروحات الحداثة إذا جاز التعبير ، وفي
الحقيقة فإننا مازلنا في عالم هابيل وقابيل من حيث طبيعة المتلاطم
لحالة المفارقات للقلق الدائم المؤثر في النفس البشرية ، وهكذا هي مسحة
المضادات التي ولدت على أساسها الحياة على سطح هذه الأرض " فكما أن
للأسود أبيض وللخير شر للحلو مر وأن لكل فعل رد فعل مساو له في القوة
ومعاكس له في الاتجاه كما تقول الفيزياء ، سيبقى هذا العالم قلقاً
يجعلنا نفهم كل التحولات التعبيرية مجذرٌة بهذا الفهم من خلال الوثائق
التي تركت لنا صداً رناناً تضج بالصور الخيالية التي لا تخلو من همسة
أسهمت في يوم ما بشكل من الأشكال في فرز رؤىً شعرية مذ أن خلق الله
لإنسان على هذه الأرض وسميت فيما بعد بالمدارس الشعرية . لذا فإن الشعر
فيما أعتقد ثمار طازجة تختلف في النكهة والطعم كنتيجة نهائية ولكنها من
رحم واحد لا يستطيع أحد أي كان أن يدقق في كل تلك التعقيدات الكيمياوية
التي تطرأ على كل صنف ولون من تلك المراحل التي يستغرقها الحمل ، وإنما
قد يعطيها تفسيراً على غرار تلك القوالب التي قولبها مجموعة من النقاد
والدارسين الذين كانوا ومازالوا يغوصون في عوالم الأدب والشعر ليأتونا
باللؤلؤ والمرجان ...
ومهما وصفوا لنا تلك الأشكال والألوان تبقى هناك آفاقاً سحيقة ومظلمة
لم تكتشف بعد في عالم الأدب الغائر في النفس البشرية المتنامية التخوم
والآفاق باستمرار .
وكنتيجة طبيعية لكل الافرازات البشرية والأدب من ضمنها ، يدخل الشعر من
بوابتين لا ثالث لهما ومحملاً من خيراتهما ... خيراً أم شراً بالإضافة
إلى الحياة المزدوجة التي يعيشها الشعراء العراقيون على وجه الخصوص
لأنهم جربوا مرارة العيش أكثر من كل الأمم الأخرى كماً ونوعاً في داخل
الوطن وكذلك في منفاهم القسري لتضيف إلى عقولهم الباطنية زخماً جديداً
يصب في روافد تتفرع كأغصان شجرة عملاقة ، فالشعر ليس له زمان ومكان ،
فكل المحاولات الاستقرائية متقاربة بعد أن اتحد الشرق بالغرب وبات
العالم قرية صغيرة مرئية كصورة فوتوغرافية ، أيقونة حمراء تكاد أن
تتفجر في أية لحظة ، تداخلت الثقافات قيها والأجناس ، وبات الإنتاج
كالمسببات على مستوى فهم الخطاب المرفق من دائرة السياق العام الذي
استنطقه الفهم الدرامي بعدما وصل أو كاد إلى المرافق المتقدمة من
الأوصال الكونية التي تعيش شيخوختها ولابد لها أن تكون حقلاً أصفراً
مترامي الأطراف ذو دلالة متآكلة ، تلك هي سمات لا جدل فيها كصورة
فوتوغرافية لكل إنتاج ثقافي مهما اختلفت موازينه ، أدواته تعبٌر ببساطة
أو تعقيد عن أيقونة اتقدت وعلى وشك الانفجار .
* من المعروف أن الفنان سعيد الوائلي انخرط في
بداية حياته في فضاء المسرح كممثل واستمر ذلك النشاط حتى فترة غير
بعيدة ، أما الآن فإن الأمر قد اختلف تماماً حيث تشعبت اهتماماتك ليبرز
الشعر كرديف جديد ، بم تفسٌر ذلك؟
أود أولاً أن ألفت انتباهك إني قد بدأت دراستي للموسيقى في معهد
الفنون الجميلة وليس للمسرح ، في العاصمة – بغداد – في بداية السبعينات
ولكنها أي [ الموسيقى ] لم تثر اهتمامي على الإطلاق وندمت كثيراً ، ولم
يكن لي في حينه أي اهتمام يذكر بها ، وجاء تقديمي إلى فرع الموسيقى
بناءً على وشاية من أقاربي لأسباب لا مجال لذكرها الآن ، ورغم حبي
للمسرح بعد أن اطلعت عليه عن كثب من خلال مشاهداتي لعشرات العروض
المسرحية طيلة السنوات الخمس التي عشتها كدارس لعلم الموسيقى في أروقة
معهد الفنون الجميلة ببنايتيه القديمة في حي الكسرة وزارة الصحة سابقاً
التي أصبحت فيما بعد مقراً للأنشطة العلمية التي كان يقودها من أزلام
النظام المقبور ممن كانوا أدواته في إفساد كل شيء يتقدموا الجموع
ليحاولوا من جديد قيادة حركة الإبداع بعد كل التضحيات الجسام والدماء
الزكية التي قدمها العراقيون من أجل التحرر ، متناسين ماضيهم وما من
أحد يقول لهم على عيونكم حواجب .........
بعد كل ما تقدم يا سيدتي كيف لي أو لغيري ممن غبنت حقوقهم كيف لنا أن
نبدأ برسالة نبيلة قيمتها الأولى النهوض بالواقع الفاسد وحمله إلى
الضفة الأخرى من النهر، كيف لنا أن نغدر به في منتصف الطريق لنغرقه في
اليم ، لذا تحملنا ما تحملناه من أجل أن لا نكون من المداٌحين أصحاب
النظرة الضيقة أو المتملقين ممن لا ينظرون أبعد من أنوفهم من أجل حفنة
من الدراهم . وأما في المنفى وأنت سيدة العارفين فللمسرح همومه أيضاً ،
وكما تعلمين أنه عمل جماعي مضني ويحتاج إلى أدوات وصبر وجهد وتروي
ونكران ذات ، كلها حلقات مترابطة ، والتفريط بأي منها يعني فشل العمل
مقدٌماً وبعد أن جربنا أعمالاً قد تجاوزت – بروفاتها – أكثر من عام
ورغم ذلك خرجت باهتة وبحاجة إلى الكثير من الجهد في الإخراج والتمثيل
رغم إشادة وسائل الإعلام المحلية بها وحتى بعض الفضائيات ، ولدت باهتة
لأن معظم ممثليها من الهواة لعدم توفر الكادر المتخصص والوقت والمكان
والكثير من المعوقات التي تحدد من القيم الجمالية لأي عمل مسرحي جاد ،
حتى ماتت الرغبة في إعادة الكرة وهكذا وجدت نفسي اتجه إلى كتابة الشعر
خطوة إثر خطوة وأصبح الشعر يأخذ جلٌ اهتمامي كمتنفس جديد أدغدغ به
مشاعري التي بدأت تأخذ من خلاله شكل [ الصورة الشعرية المسرحية ]
بأسلوب الكلمة غير الممثلة على المسرح إذا صح التعبير .
* كيف تحدد علاقتك بالفوج الجديد من الفنانين
وخصوصاً الذين ظهروا في التسعينات هؤلاء الذين يمكن أن نسميهم جيل
الحروب أولئك الذين فتحوا عيونهم على الإبداع والمدافع مصوبة إلى
رؤوسهم ؟
يا سيدتي دعينا نعرف ما معنى العلاقة أولاً ثم نعرج على ما تبقى
من سؤالك المتشعب هذا ، العلاقة كما أعتقد تأتي من خلال مجموعة من
الأهداف أو الهموم المشتركة ولنقل الأفكار التي تدور في مخيلة أثنين أو
أكثر من البشر في وقت واحد ومن خلال متنفس بسيط لأي ظاهرة اجتماعية أو
نشاط ثقافي فني أو كارثة بيئية وما أكثرها هذه الأيام ، ولكني أسأل أي
نوع من العلاقة في تصورك ممكن أن تنشأ في ظل مجموعة من الفتيان الأجلاف
هبوا من قرى غرب البلاد كالديدان وبدأت تنتشر في طول البلاد وعرضها
تنخر في القيم والأخلاق وتحرق الأخضر واليابس مرة باسم القومية وتارة
باسم الحرية وثالثة بمعول الاشتراكية لأكثر من ثلاثة عقود ، وأدخلوا
البلاد في حروب طاحنة مدمرة لأسباب واهنة لا توجد إلا في عقولهم
المريضة ذهب ضحيتها مئات الآلاف من خيرة شباب العراق وملايين المشردين
في بقاع الأرض ، أي لعنة تلك التي تجعل العربي والمسلم يفجٌر نفسه من
أجل الفتك بأكثر عدد ممكن من العراقيين ، ما سمعت من قبل من فجر نفسه
من العرب لقتل اليهود سوى الفلسطينيون وهذه قضية أخرى سياسية لا دخل
لها بما يحدث في العراق رغم موقفي بالضد منها طالما تستهدف المدنيين ،
إذن من أي ملة نحن كي يأتي العربي والمسلم من كل حدب وصوب لكي ينتقم
منا بالتفجير والتفخيخ ؟؟؟ ، وبعد تفجيره لنفسه تحتفل عشيرته بكل فخر
....؟ وتسلط وسائل الإعلام المقروئة والمسموعة على الحدث لكي يمعنوا في
نشر الحقد والكراهية أكثر ، كما حدث في تفجيرات الحلة والموصل وعشرات
التفجيرات الأخرى قبل ذلك ، هذه كلها مؤشرات تؤكد لنا أن ما نعيشه الآن
من قتل وسبي هو امتداد لمأساة الفترة المظلمة للحكم البعثي الطائفي
الشوفيني المسخ بقيادة صدام الجحور العفنة وقائمة الجحوش المدربة على
القتل ومن لف لفهم من جلاوزة النظام المقبور ، نعم عندما يكون الحاكم
بهذا المستوى من السقوط مع شعبه ستجد الشعوب الأخرى ذات النظرة
الطائفية الحاقدة تبريراً وباباً للتوغل منه والانتقام وخاصة عندما
يتأكدوا من أن لا أحد قادر على أخذ الثأر ، هكذا تركونا أهل العوجة ...
قرية ليست أكثر من عشرات الأكواخ من الطين التي لا تملك كفاف بطونها
تخرج إلى العراقيين بأسماء شتى وبأساليب مبيتة وحين أحكمت سيطرتها
أذاقت العراقيين ألوان البطش والعذاب ، وحين ينتفض العراقيون ويستصرخون
أهل الأرض للخلاص من فرعون وملأه أول من ينتقم منهم العربان والمسلمون
. لذا فإن جيل التسعينات – وعودة إلى سؤالك – يمكنني أن أطلق عليهم جيل
المعذبين [ بفتح الذال ] باسم البعث وخاصة من كافح وقاتل منهم لأجل أن
لا يكون من أدواتهم في القمع والقتل باسم الثقافة والفنون ، ومن لم يكن
بوقاً ذاق الأمريٌن ..... فكيف لي أن أبدع مثلاً وقد تعفنت في جبهات
القتال لثمان سنوات في الحرب مع الجارة إيران وكان موتي محتماً في كل
يوم لو لا إرادة الله ولم يكتفوا بذلك بل ذقت ألوان العذاب في السجون
لتهم ليس لها وجود فقط لكوني انتمي إلى عائلة معروفة بعفتها وكرهها
للنظام الطائفي ليس إلا ، كان أخي الأكبر الدكتور فيصل الوائلي وهو من
أوائل الخبراء في علم الآثار والتاريخ الذين أنهوا دراستهم في أمريكا
في عام 1955 وعند سقوط انقلاب 1963 الدموي بقيادة الحرس القومي السيئ
الصيت دعي إلى العراق ليعين مديراً للآثار العامة في العراق واستمر في
موقعه الوظيفي حتى سيطر أهل العوجة على الحكم مرة أخرى في عام 1968
بمساعدة قوى استخباراتية أجنبية، وحين طلب منه البعثيون البقاء في
وظيفته رفض دعوتهم وغادر للتدريس في جامعات الكويت حتى عام 1982 حيث
وافته المنية في لندن بعد صراع طويل مع مرض السرطان ولم يسمح المجرمون
البعثيون في دفنه عند مسقط رأسه في النجف الأشرف انتقاما، واضطرت زوجته
إلى دفنه في بيته في لندن ...
وبهذه المناسبة أدعو الحكومة الموقرة إلى نقل رفاته إلى مسقط رأسه في
مدينة النجف الاشرف كرد اعتبار لمواقفه النبيلة منذ تلك الفترة من
توجهات البعثيين الأجلاف وأدعو الأقلام الشريفة إلى الضغط في هذا
الاتجاه لتستقر روحه الهائمة منذ وفاته في الثمانيات في التربة التي
امتزجت مع نطفته قبل الولادة ، وكما أن أخاً آخر لي علوان الوائلي الذي
أنهى دراسته لنيل شهادة الدكتوراه في أمريكا أيضاً وعين أستاذاً في
جامعة بغداد منذ أربعين عاماً وهو يرفض الانتماء إلى حزب العوجة
العنصري مما سبب
له عدداً جماً من المشاكل وما زال صامداً حتى هذه اللحظة، وكذلك عمي
الأستاذ المساعد في جامعة بغداد الدكتور إبراهيم الوائلي الذي تخرج على
يديه عشرات الدكاترة المنتشرون الآن في جامعات العالم العربي ومنهم
الدكتور عبد الإله الصائغ الذي كان تلميذه في أطروحتي الماجستير
والدكتوراه قد عانى الأمريٌن أيضاً لعدم انتمائه إلى – الحزب المزبلة –
وقد يكون الدكتور الصائغ قد اطلع على بعض معاناته تلك كونه أحد تلامذته
، وأما والدي فهو الشاعر الشيخ الجليل قاسم الوائلي الذي توفاه الله
عام1981 في مدينة البصرة [ الزبير – محلة الكوت – جامع الشويلي ] والذي
كان كثيراً ما يزوره محافظ البصرة والمسؤول البعثي في المحافظة وآخرون
يزورونه بتوجيه من صدام المجرم للحصول على فتوى في بداية الحرب
العراقية الإيرانية تفتي بمقاتلة الإيرانيين حتى وإن كانوا مسلمين ورفض
والدي تلك الفكرة لمرات عديدة حتى ملوا منه فدسوا له بعد دعوته لحضور
أمر هام في مبنى المحافظة واستشهد على إثرها بالسكتة القلبية ، في نفس
ذلك الوقت عاش الكثيرون من جيلي من الكتاب والشعراء والفنانين حياة
البذخ في بيوت حمراء يتبادلون الأنخاب وقراءة قصائد المدح في حق البطل
القومي في الوقت نفسه أيضاً يسلخ فيه الآخرون في المعتقلات ويتعفنوا في
السراديب المظلمة ، ويأتي الآن نفس أولئك المدٌاحون ليتهموك بالخيانة
أو يخنس البعض كالنعامة عندما يتجاسر أولئك الأنذال على من لم تلطخ
أقلامهم يوماً بالكتابة عن القادسيات وأم
المهازل .... خوفاً من كشف فضائحهم مع النظام المقبور ، إنها معادلة
غريبة كغربتنا يوم قررنا الاتكال على الله والمشاركة في الانتفاضة
الشعبانية المجيدة ثم هربنا إلى رفحاء السعودية التي أذاقتنا بدورها
الذل والعذاب ، لنفس الأسباب التي ثرنا من أجلها وتركنا الأهل والخلان
في العراق ، لأنهم جميعاً يشربون من كأس واحد وأياديهم مغمسة في نفس –
قصعة الثريد – وما امتلكنا حريتنا إلا في بلاد الكفر كما يحلو أن
يسميها العربان .
إذن بعد كل هذا الإذلال والترحال كيف لجيل التسعينات أو الثمانينات أن
يبدع ... ؟ ، هذا قليل من فيض للإجابة على اتهامات البعض حين يقول كيف
لأحد أن يكتب شعراً في وقت متأخر بعد سقوط التمثال وأين كان قبل سقوط
النظام .. ؟ ، وكأنما ذلك المسلك الذي سلكناه والتضحيات الجسيمة تآمراً
من وجهة نظره الثاقبة ... في محاولة لقلب الصورة وتزييف الحقائق .
* بين ماضي الجذور وواقع الشعر والمسرح ما هو
المشهد الآن في الداخل والخارج وما هي توقعاتك لهذا المشهد كشاعر وفنان
؟
العراق بلدي عندما نتصفح تراثه القديم والحديث ، كل ذلك التراث
الممتد بعمق في أحشاء التاريخ بتنوعاته القومية والطائفية والاثنية
المنهوبة والمهتوكة والمصادرة الحقوق، ركام مكدٌس من الحروب والقتل
والدمار لولاها لوصل تعداد العراق الآن مئات الملايين من البشر ،وبفضل
سياسة الطغاة والغزاة جرت أنهار من الدم ... وهكذا فإن بلد مثل العراق
عميق كل هذا العمق في التاريخ ، حضارات يعدها علماء التاريخ بالغة في
القدم ، بلد الشعراء والأدباء والعلماء والفنانين رغم أن تعداد نفوسه
لا يزيد على 26 مليون نسمة ... أين ذهب ذلك الكم الهائل من ملايين
البشر، كم كان حطب الحقب التاريخية من الطغاة الذين مروا عليه منذ
المغول والتتار مروراً بالأمويين والعباسين والعثمانيين وانتهاءً بنظام
صدام حسين في العصر الحديث ، كم من أعاصير الخراب مرٌت ... ؟ كل هذا
الموت الزؤام في كل مرة كان ينفض العراق نفسه كطائر البطريق حين خروجه
من الماء ، وهكذا أيضا نحن العراقيون تعلمنا منه كيف ننفض الخراب
والحروب والدمار والموت ونبدأ من جديد من الصفر كما يحدث الآن بالضبط ،
فكما تعلمين ما من منشئ سلم أو يسلم الآن من الدمار والخراب [ بسلامة
وجود البعثيين وتوجيهاتهم ومليارات الأموال التي نهبوها من الشعب
وبتنفيذ العربان الإرهابيين لها على أكثر من صعيد ولكل مرافق الحياة .
هذا واقعنا الآن ، ولكن بتلك الجذور التي تحدثنا عنها ، بغداد ستظل
قبلة للأدب والعلم والشعر والفن كما كانت دائماً وسيظهر خلال عقد من
الزمن في اعتقادي شعراء وعلماء وفنانون على مستوى من الرقي والتجدد ما
يبهر أكاد أرى هذا المشهد عن بعد ، فما من بلد حصل على مثل هذه الفرصة
التاريخية في العصر الحديث كما يحصل لنا الآن ، وما من بلد تشتت أدباءه
وعلماءه وفنانوه بهذا الكم والنوع في بقاع الأرض كما حدث للعراقيين وما
هي إلا سنوات على عدد أصابع اليد حتى تتبلور تجارب هؤلاء ويهزوا
المجتمعات التي هم فيها الآن بعد أن نفضوا غبار الحطام الأخير وتكشفت
لهم كنوز العلم والمعرفة والحرية في داخل العراق وفي منافيهم أيضاً
وسيحتلوا أعلى المواقع الأدبية والفنية والعلمية في مجتمعاتهم سنقرأ
ذلك قريباً إنشاء الله .
* رأيناك في أعمال مسرحية عديدة قدمت على مسارح
المنفى في بداية رحلة الاغتراب أما الآن فإنك ممتنع عن الأعمال
المسرحية .. لماذا ؟
سيدتي أنت فنانة مسرحية لامعة ، قدمت أعمالاً رائعة مع كبار
الفنانين العراقيين في الداخل وجملة من الأعمال الجيدة في المنفى أيضاً
وأرى أنك في عد تنازلي تشكين من قلة الأعمال أيضاً وكما تطرقت أنا إلى
مجموعة من الأسباب في الجواب على سؤالك الثاني أضيف هنا أن للمسرح
أدواته الخاصة به وأنت سيدة العارفين إن توفرت سنتكل على الله خاصة وأن
الساحة الآن تحتوي على طاقات لا يستهان بها ، مشكلتنا ليس النص أو
الممثل أو المخرج وإنما ردم الهوة التي يزيد في عمقها المتطفلون على
المسرح وكف شرورهم عنا.