مقالات في الدستور

 

 

دعوة لتأجيل كتابة الدستور الدائم

 

د. عبدالخالق حسين

Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com

 

لا يختلف اثنان سوّيان في هذا العالم أن الدستور الدائم يعتبر من أهم القوانين الوضعية التي يصيغها البشر لبلدانهم. فهذا الدستور لا يخص الجيل الذي يضعه فحسب، بل يقرر مستقبل الأجيال القادمة أيضاً. ونظراً لأهميته الفائقة، لذلك يسمى بالقانون الأساسي. فعلى الدستور يعتمد سن جميع القوانين والتشريعات اللاحقة في المستقبل. ولهذا السبب لم تستعجل الأمم الحية في سن دساتيرها إلا بعد أن استقرت أوضاعها الداخلية ونضجت ظروفها وحان الوقت الملائم لها.

كذلك لا يختلف اثنان أن العراق يعيش الآن ظروفاً استثنائية في غاية الخطورة تهدد مستقبله كدولة وشعب، حيث تعمه الفوضى العارمة بعد سقوط أبشع نظام دكتاتوري همجي متخلف نشر الدمار والخراب ليس في المؤسسات الاقتصادية فحسب، بل وحصل التدهور الاجتماعي والاخلاقي والحضاري والفكري في كل شبر من العراق. وصار العراق الآن مرتعاً خصباً لتفريخ عصابات الجريمة المنظمة وساحة للحرب العالمية ضد الإرهاب، والشعب العراقي هو الذي يدفع القسط الأعظم من الثمن الباهظ بدماء وأرواح أبنائه ومؤسساته الاقتصادية، من أجل دحر الإرهاب العالمي.

 نعم، يعيش العراق الآن وضعاً فيه حكومة ضعيفة أثبتت عجزها في إدارة الدولة وتسيير الأمور بما يحفظ للشعب أمنه ويقدم له الخدمات. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أفادت الأنباء أن رتلاً من السيارات تنقل عشرات المسلحين أحاطوا بمنزل أمين العاصمة واختطفوه ونصبوا مكانه شخصاً آخر. وفي السماوة تحصل مصادمات مسلحة بين مليشيات الصدر وبدر وذهبت العشرات ضحايا هذه الصراعات الدموية. وفي البصرة تم اختطاف الصحفي الأمريكي، ستيفن فنسنت، لأنه انتقد التسيب الأمني في المحافظة وتعليق صورة الخميني في مكتب المحافظ، فقتل مع مترجمته. وفي أماكن مختلفة من العراق، يقتل يومياً بمعدل ثلاثين شخصاً أغلبهم من العرقيين على أيدي الإرهابيين وعصابات الجريمة المنظمة.

 في مثل هذه الأوضاع الشاذة والخطيرة، لا يمكن كتابة دستور المفترض به أن ينقل الشعب العراقي إلى القرن الحادي والعشرين، قرن العولمة والحداثة وما بعد الحداثة والحضارة الإنسانية الراقية. إذ لا يمكن عزف سيمفونية في سوق الهرج أو سوق الصفارين كما يقولون. فالشعب العراقي يعيش الآن في حالة تشويش وبلبلة فكرية وشيوع الخرافة وعدم القدرة على التفكير السليم وفي متاهة من أمره، فاقداً الأمان والخبز والخدمات الأساسية الأولية البسيطة الضرورية لاستمرارية الحياة ونسبة البطالة ضربت أرقاماً قياسية. لذا فالحديث عن الديمقراطية والدستور في هذه الظروف بالنسبة للعراقيين في الداخل يعتبر نوع من البطر. لذلك ففي مثل هذا الأوضاع المأساوية لا يمكن كتابة دستور ناضج ولا يمكن الحصول على نتائج عادلة ومقبولة من استفتاء الشعب عليه. فهذا الجيل الذي عانى عقوداً من القهر والجوع والاستلاب لا يمكنه وليس من حقه أن يقرر مستقبل الأجيال القادمة بهذه العجالة وفي مثل هذه الأوضاع الشاذة التي يعيشها. وقد بدا ذلك بوضوح من مسودة الدستور التي اطلعنا عليها وهي بائسة لا يمكن إصلاحها مهما أجريت عليها من تصويبات وتعديلات.

لذلك أرى من الحصافة والحكمة التروي وتأجيل كتابة الدستور الدائم إلى أن تهدأ العاصفة وتستقر الأمور وتشفى الجراح وتسكن النفوس وتعود الثقة بين مكونات الشعب العراقي وتصل السفينة العراقية إلى ساحل الأمان، وعندها تكون الظروف مواتية لكتابة دستور ديمقراطي عقلاني عصري ناضج يحقق السعادة للجميع. أما فرض دستور مشوش ومبتسر باستعجال، على طريقة سلق البيض، على حد تعبير الصديق شاكر النابلسي، ووسط تفجيرات الإرهابيين والسيارات المفخخة وضغوط خارجية وخاصة من واشنطن، فلا يمكن إنجاز هكذا عمل خطير يقرر مصير شعب وأجياله اللاحقة ويحقق له السعادة والاستقرار.

فكرة التأجيل هذه طرحتها إثناء الندوة التلفزيونية التي نظمتها مشكورة فضائية (الحرة) مساء الأربعاء 10/8/2005، وقد أيدني عليها الصديق الدكتور سيار الجميل الذي شارك في الندوة بمداخلاته القيمة واقترح مدة 4-5 سنوات من الآن. وهذه الفترة معقولة لأن بالإمكان خلالها حل الكثير من المشاكل التي يعاني منها الشعب، إلى أن يحين الوقت المناسب لكتابة دستور عصري حضاري يستجيب لاحتياجات الشعب العراقي في القرن الحادي والعشرين.

لقد استغرقت كتابة الدستور الأمريكي عشرة أعوام، والدستور الياباني كتبه الأمريكي ماك آرثر بعد سبعة أعوام من بداية الإحتلال الأمريكي لليابان، والدستور العراقي الملكي كتب بعد خمسة أعوام من تأسيس الدولة العراقية، وتم تعديله خمس مرات، وبريطانيا قلعة الديمقراطية، لحد الآن ليس لها دستور مدون. والآن عرفنا الحكمة من تأجيل الزعيم عبدالكريم قاسم لكتابة الدستور الدائم بعد ثورة 14 تموز 1958 إلى أن تستقر الأمور، حيث شكل لجنة بعد أربعة أعوام من الثورة لهذا الغرض ولكن الانقلاب البعثي في 8 شباط 1963 أجهض التجربة الرائدة. فكيف يمكن للجنة صياغة الدستور العراقي الحالية أن تنجز المهمة في ستة أشهر وفي هذه الأوضاع العاصفة حيث تضخمت أكوام من المشاكل التي تراكمت عبر قرون؟

 والسؤال الذي وجهه مدير الندوة المشار إليها، الأستاذ سالم مشكور هو: لماذا تصر أمريكا على إنجاز الدستور بهذه العجالة؟ أجاب على هذا السؤال المشارك الأمريكي في الندوة، أن هناك ضغوطاً على الإدارة الأمريكية لتسليم السيادة إلى العراقيين بأسرع وقت ممكن ولتأكيد حسن نوايا الرئيس جورج بوش، وإنجاز الدستور من قبل العراقيين هو أحد مقومات السيادة الوطنية. لم أتفق مع هذا الرد لأنه غير مقنع، لأن العراق عاش ما يقارب الخمسين عاماً على دساتير مؤقتة دون الإخلال بسيادته الوطنية. أما ما هو البديل عن الدستور الدائم من الآن وخلال الأربعة أعوام القادمة إلى أن يلد الدستور الدائم، فيمكن العمل بقانون إدارة الدولة المؤقت.

والسؤال الآخر هو، لماذا يصر الإسلاميون على إصدار دستور دائم على عجل؟ الجواب هو: إنهم يراهنون على المد الإسلامي الشيعي في الشارع العراقي والمشاعر الدينية الملتهبة بعد ظلم النظام الفاشي لهم. ويعرفون جيداً أن هذا المد كغيره من المدود في الماضي هو مؤقت وعمره قصير ولا بد أن ينحسر قريباً وكل الدلائل تشير إلى بداية تذمر الناس من سياسة الإسلاميين. لذلك يريدون أن يسنوا دستوراً إسلامياً على عجل يكبلون به الشعب العراقي إلى أمد بعيد، تماماً كما حصل للشعب الإيراني. ونحن إذ نحذرهم من الانسياق وراء العواطف المشبوبة ونطالبهم بالانصياع إلى صوت العقل والاستفادة من التجربة الإيرانية. إذ تفيد استطلاعات الرأي أن 80% من الشعب الإيراني و90% من طلبة الجامعات الإيرانية الآن هم ضد النظام الإسلامي ويتمنون لو تأتي أمريكا وتسقط لهم نظامهم بنفس الطريقة التي أسقطت بها نظام البعث في العراق. وهاهو حفيد الخميني، السيد حسين الخميني، ينصح العراقيين بقيام نظام علماني ديمقراطي في العراق وألا يتورطوا بنظام إسلامي.

 مرة أخرى، نؤكد مطالبتنا بدستور علماني ديمقراطي وإبعاد الدين عن حبائل السياسة لا كرهاً للدين كما يتهمنا الإسلامويون، بل حرصاً عليه من استغلاله وإفساده من قبل السياسيين الإسلامويين الذين اتخذوا من الإسلام وسيلة لتحقيق أطماعهم في الوصول إلى السلطة. فالعلمانية الديمقراطية ليست ضد الأديان كما هو معروف. والدليل على ذلك هو تمتع أصحاب جميع الأديان في الدول الغربية الديمقراطية بالحرية الكاملة في ممارسة شعائرهم الدينية دون قيد أو شرط. ولذلك كان الإسلاميون العراقيون يفضلون العيش في بريطانيا والدول الغربية الأخرى على العيش في جمهورية إيران الإسلامية. وعليه، نطالب الإسلاميين بالكف عن ترديد النغمة النشاز أن العلمانية والديمقراطية ضد الدين. ففصل الدين عن السياسة خدمة للدين نفسه.

خلاصة القول، لا يمكن كتابة دستور عصري ناضج في الظروف العاصفة التي يعيشها العراق الآن. والدستور الذي سيصدر في مثل هذه الظروف الكارثية والأوضاع السائبة سيفاقم الأوضاع الشاذة ويكون وصفة لسلسلة من الكوارث في المستقبل. فالعجلة من الشيطان والتأني من الرحمن! كما تفيد الحكمة الدينية!

 

 

 

   

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com