مقالات في الدستور

 

الأزمة الدستورية والخراب الشامل في العراق..

                

عزيز الحاج

 

أجل.. هو خراب شامل يتصدره هذا الموت الجماعي والفردي، وهذه التفجيرات الدموية التي لا تستثني لا جامعا ولا مستشفى، ولا طفلا أو شيخا. خراب من أبرز مؤشراته ومظاهره تداعي القيم الأخلاقية، وانتشار الطائفية، وعودة العشائرية، وتنافس النخب السياسية على "الغنائم"، وهذه الموجة الدينية المتزمتة التي لا يعرف لها مثيلا تاريخ العراق الحديث.

الخراب بدا زمن العهد الفاشي المنهار، وخصوصا في عقده الأخير. إنه لم يبدأ بعده كما يحلو قوله عند المعلقين غير الموضوعيين والمغرضين من عرب وأجانب. وكانت بعض الريبورتاجات العربية النزيهة قد أشارت للخراب الصدامي قبل السقوط، ومثال ذلك موضوع "ثناء الإمام" في صحيفة النهار في 15 مارس 2003 أي قبل الحرب، وهو مقال أعادت صحيفة إيلاف نشره بالتاريخ نفسه. كان عنوان المقال [العلمانية تنحسر في شوارع بغداد أمام مد "الحملة الإيمانية"]. ففي التسعينات الماضية صدر قرار منع الكحول في المطاعم والفنادق. وبسبب الموجة "الإيمانية" وعواقب الدكتاتورية والحظر الاقتصادي انتشرت موجة التدين المتزمت حتى كان أكثر من 70 بالمائة من العراقيين من المصلين المتزمتين، وانتشرت الطائفيتان السنية السلفية ورد فعلها الطائفية الشيعية. كما انتشر الحجاب بشكل يلفت النظر. وباسم الفضيلة والأخلاق قطعت رؤوس المئات من العراقيات بتهمة العهر وعلقت رؤوسهن على أبواب البيوت. وفي تلك الفترة انتشرت ظاهرة الفساد المالي والإداري من فوق إلى تحت، وصار الشرطة شركاء مع شبكات الجريمة المنظمة، ووقعت حوادث الخطف وطلب الفدية، ومداهمات البيوت بالعنف للسرقة، وسلب السيارات حتى في وضح النهار. وأصبح تسلح الأفراد والعائلات ظاهرة شائعة، وبلغت الموجة ذروتها بإطلاق سراح أكثر من 80 ألف مجرم من القتلة والمغتصبين وغيرهم قبل شهور من الحرب.

 كان متوقعا والحال هكذا أن يضع ذلك الخراب بصماته على الوضع بعد سقوط النظام. وحدث ما نعرفه من "فرهود" شامل لم يستثن المكتبات الوطنية والأرشيف الحكومي. وكان لسلبية وعدم اكتراث القوات الأمريكية دور أساسي في انتشار الظاهرة وانتقال الخراب لمجالات أخرى بفعل القوى والفئات الإسلامية المتطرفة وأعوان النظام الفاشي، خصوصا ومعظم دول الجوار هي ضد التغيير وتعمل كل شئ لعرقلة المسيرة نحو الاستقرار والهدوء والديمقراطية.

  اتسعت الظاهرة الطائفية حتى وصلت للأداء السياسي في الحكم باتباع نظام المحاصصة، وإلى حد الاعتداء المتكرر على جوامع السنة والشيعة، ناهيكم عن الكنائس في بغداد والموصل، والحملات على السينمات ومحلات بيع الكاسيتات الموسيقية، وفرض الطقوس الجنائزية الشيعية في الجامعات وقتل كل عميد كلية يعارض تدخل رجال الدين في شؤون الجامعات. كما منعت نساء غير محجبات من دخول المستشفى، وصولا لمنع الأطباء في الجنوب من معالجة النساء.

إن هذه الخلفية المعروفة للعراقيين لا يجب إغفالها ونحن نتناول الوضع العراقي الراهن، الذي وصل الذروة في العنف الدموي الشامل على أيدي الإرهاب الصدامي ـ الزرقاوي، المدعم من سوريا وإيران وبأموال خليجية وبكل القيادات الإسلامية العربية في لبنان وسوريا ومنها حماس والجهاد الفلسطينيتان؛ هذا الإرهاب االدموي العبثي الفاشي السادي الذي يحظى مع الأسف بعطف وتواطؤ شرائح واسعة من سنة العراق العرب، الذين كان النظام الصدامي يمنحهم الامتيازات الضخمة على حساب الآخرين.

 إن الأزمة الدستورية الراهنة هي من نتاج هذا الخراب الذي ابتليت به معظم القيادات السياسية وفئات واسعة من المثقفين ورجال الدين، ناهيكم عن شارع صار أسير القيم المذهبية والعنصرية والدينية والعشائرية، ورهينة التنظيمات الإسلامية من شيعية وسنية، وفريسة القوى الصدامية التي لا تزال ذات أموال ضخمة وسلاح في التدمير والقتل.

 إن الانتخابات، التي وجهت ضربة قوية للإرهابيين، لم تخل من ظواهر قاتلة كان على رأسها تدخل الدين ومراجعه بنداءاتهم وفتاواهم. ونعرف انه لولا دعم السيد علي السيستاني لقائمة الائتلاف الشيعي لما حظيت بتلك النتائج الانتخابية. وبدلا من استثمار النصر الانتخابي لعزل التطرف والإرهاب، فإن التنظيمات والأحزاب الشيعية تصرفت من موقع نشوة النصر وباستعلاء وعناد للسيطرة على أهم عتلات السلطة ومواقعها. وبدلا من أن تضرب المثل على احترام القانون وسيادته لعزل الإرهاب وضربه بقوة وزيادة عزلته، فإنها ارتكبت سلسلة أخطاء فادحة بدءاً بالتساهل مع جريمة اغتيال الخوئي، وغض النظر عن القرار القضائي بإلقاء القبض على مقتدى الصدر، مما سمح بنمو ظاهرته الموالية لإيران والمتعاطفة مع الإرهابيين "السنة" من سلفيين و صداميين. وحالت المرجعية  والأحزاب الشيعية بين معاقبة جيش المهدي في النجف ليعود بعد ذلك  ولحد اليوم لاقتراف المزيد من الانتهاكات وإشعال الفتن. وبدلا من أن تكون التنظيمات السياسية الشيعية التي هي صاحبة اليد الأقوى في السلطة مثالا لاحترام الأديان الأخرى وحريات الناس، فإنها بدأت تدريجيا بملاحقة السافرات والتضييق على المسيحيين والمندائيين، وما يحصل في البصرة هو المثل الصارخ على ما يفعله ضحايا أمس بالآخرين  شيعة كانوا أو سنة أو من غير المسلمين. ولم يكن أمير طاهري والدكتور عبد الخالق حسين ورشيد الخيون وغيرهم مخطئين عندما حذروا بعد شهور من سقوط صدام الأحزاب الشيعية من تكرار أخطاء الماضي. ومعظم المنتقدين كانوا من الشيعة مثلما هو الحال اليوم مع المثقفين الشيعة الذين كانوا أول من انتقدوا وبشدة مسودة الدستور. وفي مقال مؤثر نشره رشيد الخيون في إيلاف بتاريخ5 نيسان 2004، أي بعد عام من سقوط الفاشية،  بعنوان " ما ليس من ثابت ومتغير شيعة العراق.. محاصرة النساء، وتعطيل دور العلم، وإفزاع الآدميين، وعرقلة قيام دولة"، ورد أن ما كان يحدث في مؤسسات بغداد العلمية في بغداد والبصرة "لا علاقة لها بدين ومذهب بقدر ما يعبر عن نزعة انتقام متجذرة في النفوس، ومحاولة لغسل سنوات من الذل والإهانة. فضحية الأمس تريد أن تلبس ثوب الجلاد. ولا أدري هل تدرك هذه الفئة أنها تريح جلادها بأفعالها وهو في سجنه يتنعم بما يرى من عقوبة تحل بالعراقيين." وبعد شهر واحد من سقوط صدام نشرتُ مقالا بعنوان: " أوقفوا الوافدة الطالبانية في مهدها" معلقا على الانتهاكات في مدينة الثورة والجامعات والمستشفيات والشارع.

 إن الأزمة الدستورية الراهنة مرتبطة بمجمل الوضع السياسي وبكل نواحيه، ولا يجوز تناول المسودة بمعزل عن الأوضاع السياسية الراهنة، من حيث استفحال الإرهاب وانعدام الأمن والكهرباء والماء، ومن حيث زيادة تدخل بعض دول الجوار وإيران خاصة في شؤون العراق وفي مضامين الدستور بالذات. فكيف مثلا يمكن معالجة موضوع الفيدراليات خارج كردستان بمعزل عن النفوذ الإيراني المستفحل في الجنوب وعن سيادة حكم التطرف الإسلامي المذهبي هناك؟ إن الفيدرالية كنظام سياسي لأوسع لا مركزية هو نظام برهن على رقيه وجدواه في الدول الديمقراطية. ولكن مشروع الفيدرالية الشيعية لتسع محافظات هو غير الفيدرالية الإدارية الجغرافية، ناهيكم عن ظاهرة وواقع النفوذ الإيراني هناك. ومن هنا فإن تحقيقه في هذه الظروف لن يعني غير ربط تسع محافظات غنية بعجلة ولاية الفقيه عمليا إن لم يكن رسميا. هذه ملاحظة أذكرها تعليقا على مقالين لمفكرين عربيين احترمهما كثيرا وأعني الدكتور شاكر النابلسي في مقاله الأخير عن سنة العراق ومقال الدكتور هاشم صالح في الشرق الأوسط عن الفيدرالية. إن قانون الإدارة لم ينص على فيدراليات مذهبية. لقد اعترف بخصوصية كردستان مثلما اضطر نظام البعث نفسه عام 1970 للاعتراف بها لأسباب تكتيكية وليس عن حسن نية. إن قانون الإدارة يمنح حق تأسيس الأقاليم على أساس جغرافي وإداري ولا نجد فيه نصا على فيدراليات خارج كردستان التي اعترف بها القانون اعترافا كاملا. وحتى بعض قادة السنة كالحزب الإسلامي يعترفون بتلك الخصوصية في الوقت الذي يرفضون فيه صيغة الفيدرالية الجنوبية المذهبية مثلما يرفضها الديمقراطيون الشيعة من دعاة الحكم المدني ومنهم السيد إياد جمال الدين. وأعتقد أن رأي الشيخ غازي الياور نائب رئيس الجمهورية، وهو سني، أصوب من موقف الأحزاب الشيعية حول الموضوع. ففي تصريحاته للشرق الأوسط منذ أيام قليلة قال:

" أنا مع الرأي في أن منطقة كردستان لها خصوصية أفرزها 14 عاما، وفيها خصائص جغرافية وثقافية وقومية لإخواننا الكرد، وما دامت كردستان جزءا من التراب العراقي. لكن أجد صعوبة كثيرة في تبرير أو قبول فيدراليات في الجانب العربي، ولا يجوز أن نتكلم عن فيدراليات غير محددة .."

 ونقطة أساسية أخرى أحب إيرادها لأخينا الدكتور النابلسي حول مقالته الأخيرة عن مسودة الدستور، وهو كما أتذكر أول تعليق له على المسودة الحالية. إن التحدي والخطر الأكبر في المسودة هو كونه مشروعا لنظام إسلامي في العراق بجعل الشريعة تتحكم في مناحي الحياة وما في ذلك بوجه خاص من عدوان على المرأة وعلى الأديان الأخرى كما الحال في السودان وإيران.  ولابد من ملاحظة أن الإسلاميين السياسيين الشيعة والسنة متفقون على ذلك، بل إن أحد مطالب المتحدثين باسم السنة من المسودة وجوب تسجيلها لكون الإسلام، ويقصدون به حكم الشريعة هو المصدر الأساسي، [ بألف التعريف]، وليس مصدرا أساسيا، مع أن مجمل النصوص لو أخذت إجمالا يفهم منها أن الدين هو المصدر الأساسي للتشريع، أي ما عداه ثانوي.

وبرغم حرص الرئيس بوش وضغط سفيره زلماي خليل زاد، ولأسباب أمريكية داخلية، على تمرير المسودة، فإن الصحافة الغربية لم يفتها وضع اليد على ما هو محور المسودة ولبها الحقيقي أي كونه دستورا إسلامياً مبرقعا بعشرات النصوص والعبارات عن حقوق الإنسان والحريات. وكانت الديلي تلغراف قد عنونت تعليقها هكذا "رضوخ الولايات المتحدة لمطلب الدور الإسلامي في القوانين العراقية". وهذا ما لم يفت النيويورك تايمس ولبراسيون الفرنسية وغيرهما. فكيف يمكن لبوش أن يستند لإقرار دستور كهذا أمام الرأي العام الأمريكي الذي سيسأله: "وهل كل الحرب وتضحياتها لاستبدال استبداد بآخر؟! وأين إذن الحديث عن الديمقراطية لكل الشرق الأوسط؟!"

 لقد كان ممكنا تفادي الأزمة لو استندت السلطة العراقية والجمعية الوطنية للبند الوارد في الدستور المؤقت عن احتمال وإمكان تمديد الموعد ستة شهور أخرى، أو لو قررت الجمعية تأجيل الموضوع كله لما بعد الانتخابات القادمة واعتبار الدستور المؤقت هو الساري لذلك الحين.

إن اعتماد المسودة، وإن كان ذلك شبه مستحيل، سيزيد في موجة العنف الإرهابي وفي انعدام الخدمات بالتالي. وفي ريبورتاج لصحيفة هيرالد تريبيون ينقل آراء مواطنين شيعة في بغداد نرى شبه إجماع على أن هاجسهم الأول والحقيقي هو حياتهم اليومية، ولاسيما الأمن زائدا الخدمات، والقليلون من غير النخب من تابعوا حقا المساجلات الدستورية أو من سيستطيعون حقا قراءة المسودة واستيعابها. وإذن، فهل سوف نعود ثانية لدور أئمة الجوامع والحسينيات والفتاوى ورعب المليشيات لتمرير صفقة الدستور في الاستفتاء الشعبي؟!

  

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com