مقالات في الدستور

 

مسودة الدستور العراقي وضع النقاط على الحروف أم إسقاط النقاط عن الحروف

 

فينوس فائق

Venusfaiq@yahoo.co.uk

لا أدري إن كان العنوان يلائم الموضوع أم لا، لكنه جاء نتيجة تفكير طويل وأنا أقرأ نص مسودة الدستور، فكرت في النقاط السياسية التي تحتاج إلى وضعها على الحروف التأريخية منذ عهود طويلة، لكن تثبيتها على الحروف الصحيحة، فكثيراً ما نوهم أنفسنا أننا نضع النقاط على الحروف، لكننا عندما نعود ونقرأ ما وضعنا النقاط عليها نجد النقاط على الحروف الخطأ، والمصيبة أن في مسودة الدستور الكثير من النقاط التي سقطت منها الحروف عمداً ولم توضع النقاط حتى على الحروف الخطأ، بل أن هناك نقاط كانت موجودة في مكانها الصحيح واسقطت عنها، والعذر أننا في زمن الديمقراطية والحريات والذريعة أن صدام قد سقط ومن بعده الكل فطاحلة سياسيون ويفقهون كل شيء من الحقوق، والطامة الكبرى أن كل الساسة العراقيين اليوم يظن نفسه إزاء صدام طاهراً ونبياً سياسياً، بمعنى أصح أن الكل لو وقف إلى جانب صدام ظن نفسه سياسياً نزيهاً وصاحب تأريخ وماضي مشرق عادلاً وديمقراطياً، في حين أنه حتى الديمقراطية والعدالة هي درجات، ومن غير الممكن مقارنة أحد بصدام، لكن ممكن قياس وطنيتهم بمقاييس أخرى، وأن ليس كل من يسيس البلد اليوم وطنيون من الدرجة الأولى، فهناك الكثيرون ممن يسيسون البلد ومازالت تفوح من ايديهم رائحة دماء الشهداء، فأي دستور سيكتب ويعرض على الشعب المسكين..

لم تكن قراءتي لمسودة الدستور بهدف أن أنتقدها، فقد قرأتها وأنا أبحث بين ثناياها عن ومضة أمل ورأس خيط أربط به أواصر الأخوة العربية الكوردية وأواصر الأخوة بين كافة أطياف المجتمع العراقي، لكن للأسف لم أجد ولا حتى شمعة مكسورة أشعلها في غرفة الآمال المظلمة وحتى قطعة خيط مقطوع اربط به أواصر تلك الأخوة المزعومة..

إن أي دستور ووثيقة من هذا النوع من المفروض أن يكون من أجل تنظيم حياة البشر على أساس من مباديء إتفاقيات حقوق الإنسان العالمية والشرائع السماوية وبما يرضى به الضمير الإنساني وفق روح العصر والمباديء الأخلاقية التي تتناسب مع العصر الي نعيش فيه، وأن يقبل به كل شرائح المجتمع وكل أطيافه وإنتماءاته ويرضي الكل بدون أي إستثناءات، فأي تعقيد هذا الذي يجمع بين بنوده هذا الدستور، بحيث لا يترك مجالاً لأي نوع من أنواع الشك والتشكيك، في حين أنه سرعان ما عرض على الجمعية الوطنية وكما يقول المثل الكوردي كالطبخة التي أحرقوها قبل أن تستوي..

لا نحتاج لأن نتجول بين بنود الدستور بنداً بنداً لنضع يدنا على مناطق الضعف بين سطوره وفقراته، وإنما يكفي أن نقرأ الفقرة الأولى من البند الأول والذي ينص على أن الإسلام دين الدولة الرسمي، وهو مصدر أساس للتشريع، والفقرة (أ) منه الذي ينص على أنه لايجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام، وبعده يمكن طيه وغلقه وعدم إكماله ..

أي وثيقة تترك مجالاً للقلق والإنتقاد، لايمكن أن تكون قد حققت أبسط مظهر ومبدأ من مباديء الديمقراطية التي هي العدالة، فعندما إنتظرنا المسودة، لم نكن ننتظر مسدوة كأي مسودة أخرى، ودستور كأي دستور آخر، لأن معضلة العراقيين مع أشرس دكتاتور على الأرض لم تكن كأي معضلة عادية على وجه الأرض، كان لابد أن يكون دستوراً غير عادي لحالة غير عادية، لأنه كتب في زمن غير عادي، لأنه جاء بعد عذاب وإضطهاد غير عاديين، لأنه يخص شأن شعوب غير عاديين ن لأنه دستور يخص حالات قوميات غير عاديين، لأننا عانينا وإنتظرنا إنتظاراً غير عادي لنرى هذا اليوم الذي نصيغ فيه دستوراً يلم ما بعثره صدام وأن يصلح ما كسره صدام، كان يجب أن يكون دستوراً أفضل من هكذا، دستوراً يحقق اكبر قدر من العدالة والحقوق لشعب عانى أكبر قدر من الظلم والإضطهاد والقهر ..

أكثر ما يدعوا إلى التعجب هو البند أولاً من المادة الثانية من الدستور والذي يجمع الشيء ونقيضه في جملة واحدة حين يقول أن " الإسلام هو دين الدولة الرسمي " هذه العبارة التي لا تقوم على اي مبدأ من العلم والمنطق، فكلمة الدولة وعلى إعتبار أنها تسمية مجازية تدل على الإطار الحكومي الذي يجمع أبناء الشعب تحت رايته وسلطته، تلك السلطة التي تمثلها وتجسدها الأشخاص، والأشخاص في بلد مثل العراق ليسوا كلهم لا عرب ولا مسلمون، فيهم الكوردي والأشوري والكلداني والتركماني، فيهم المسلم والمسيحي وحتى اليهودي، وحتى من بين المسلمين فيهم سني وشيعي ..ألخ، والدولة ليست بإنسان وشيء مادي موجود وبالتالي لا روح له ولا واجبات ولا حقوق، فهي تسمية إفتراضية لتشكيلة ولمجموعة الأشخاص الذين يحكمون البلد، وعليه الشيء الذي لا روح له ووجوده إفتراضي كتحصيل حاصل لا دين ولا لغة ولا جنس له، وبالتالي فإن تلك المادة باطلة ولا معنى لها، وإلا فهل يعقل أن تصلي الدولة وتصوم وتدفع الزكاة وتحج بيت الله الحرام وإلى آخره من فروض الطاعة؟ وإذا كانت كذلك كيف يجري فرض الدين الإسلامي قسراً على الإنتماءات الدينية الأخرى؟ أما بالنسبة إلى "دين الدولة" المزعوم هذا والذي هو الإسلام، فمن المؤكد أنه إسلام يتمثل في المذهب الشيعي، إذا ما أخذنا بنظرالإعتبار أن أكبر فئة قاطعت صياغة الدستور كانت السنة، إذا فإن المقصود بالدين الإسلامي هو المذهب الشيعي وليس سواه، إلا إذا كان الهدف من هذه العبارة هو فرض الدين الإسلامي قسراً على المتدين وغير المتدين والمسلم وغير المسلم، وهو بهذا يلغي كل الأديان الأخرى والحريات الشخصية ويكون بذلك يدعوا بشكل صريح إلى تبني روح التفرقة بين "ابناء البلد الواحد"، ويبطل محتوى ومضمون نص المادة (39) والذي ينص على "أن الكل احرار في الالتزام باحوالهم الشخصية حسب دياناتهم ومذاهبهم ومعتقداتهم واختياراتهم. وإذا ما لاحظنا هنا أنه ليس هناك ذكر لنوع المحكمة التي ستبت في قوانين الأحوال الشخصية (راجع المادة الثانية من الدستور، (أولاً) النقطة (أ) "لا يجوز سن اي قانون مع ثوابت أحكام الإسلام" ) ..

هذا إضافة إلى أن هناك الكثير من الأمور التي يجب أن يبت فيها وفق معطيات جديدة تحتمها العصر والمذهب والدين والوضع الإجتماعي وخصوصاً ما يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية التي تخص وضع المرأة في المجتمع على سبيل المثال..

الشعب الكوردي كان يعلق القدر الأكبر من الأمال على تلك الوثيقة، ومع ذلك نابه القدر الأكبر من الإحباط وخيبة الأمل، وحتى أنه هذا ما وصلني من وجهات النظر التي قرأتها خلف كواليس السياسة في الشارع السياسي الكوردي، فلاوجود لما يلمح إلى قضية تقرير المصير التي قاتل الكورد من أجله سنين طوال ضد الأنظمة الدكتاتورية، وكما أسلفت في مقال سابق من أن هذا التنازل عن حق تقرير المصير سيكلف الكورد الكثير الكثير سياسياً وتأريخياً، حتى أن أحد السادة الذين نشر تعقيباً بهذا الصدد هو الدكتور منذر الفضل الذي أشار في تصريح صحفي له قبيل عرض مسودة الدستور أن حق تقرير المصير للشعب الكوردي تمت الإشارة إليه بين بنود الدستور من خلال بند صريح بذلك المعنى، لكنني حين بحثت وفحصت الدستور وقرأته بنداً بنداً لم أجد لا عبارة "تقرير مصير" التي باتت تسبب الحشرجة في حلق البعض والحكة الحساسية اللغوية لدى البعض الآخر، ولا حتى بند وفقرة تتناول تقرير المصير حتى بشكل غير مباشر، هذا بالإضافة إلى مسألة قوات البيشمركة النظامية التي لم يشر الدستور إليها لا من قريب ولا من بعيد الأمر الذي هو بمثابة نزع القوة ونزع رمز نضاله وقوته التي طالما يفخر بها طوال التأريخ وعدم الإعتراف بها وجعلها عرضة للحل في اي لحظة ..

 

إن ما يمكن ملاحظته بشكل جلي عبر نقاط وبنود الدستور، وهو دستور كتب ليزج بالدين في السياسة ولطمس السياسة بغطاء الدين والخروج ببدعة الإسلام السياسي وتكريس مباديء الإسلام السياسي من أجل خدمة غايات أخرى بعيدة عن كل ما يمت بصلة إلى مصلحة الشعب وأبناء الشعب الواحد، وهو لم يأتي بكتب أساس بهدف لم شمل القوميات والمذاهب والإنتماءات المختلفة في إطار دولة واحدة تعترف بحقوقهم وحرياتهم وتمنحهم فسحة للتعبير الحر والتنفس بحرية تحت مظلة حكومة جمهورية نيابية (برلمانية) ديمقراطية اتحادية، كما هو مكتوب، وإنما هو دستور تضع كافة الإنتماءات من دينية وعرقية وطائفية وقومية كل في خانة واحدة على حدة، وتكرس كل مظاهر التفرقة والتفتت، على عكس ما يحملون من شعارات تنادي بوحدة أراضي العراق، وأن الكورد هم دعاة فكرة تجزأةالعراق وتفتيته، إنها وثيقة تكرس التشتت السياسي أكثر من تصليح ما دمره صدام، على الأقل ذكر صدام وإن كان حبر على ورق في قوانين البعث حق الكورد في الحكم الذاتي، في حين أن هذا الدستور لا يؤمن حتى بأي بديل آخر في حال فشل النظام الفيدرالي ولا يأتي على ذكر اي نوع من أنواع تقرير المصير التي ناضل من أجلها الشعي الكوردي وقاتل وأعطى الشهداء من أجلها.

إن هذا الدستور لا يختلف عن ما سبقها من دساتير إلا في بند واحد وهو البند الذي يحرم فكر البعث وإلا فإنه نسخة أخرى من الدساتير الأخرى التي هضمت وتهضم طوال التأريخ كل حقوق الشعب الكوردي وهي نسخة أخرى من إتفاقيات مثل إتفاقية لوزان..

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com