مقالات في الدستور

 

 

من اجل فهم حضاري للتصويت على الدستور

 

محمد سعيد المخزومي

almakhzumi2@hotmail.com

 

يمكن للإنسان أن يقول ما يشاء ويصرح ما يريد وينطق بما تشتهيه نفسه, ويكتب ما تنْزع إليه رغبته, لكن الذي يميز الإنسان عن غيره ليس نطقه وكلامه, وانما حضاريته في القول والفعل والتصرف.

الحضارية باختصار شديد هو التصرف بما يمليه عليه فهمه عن الحياة بما يضع الإنسان موضعه الذي وضعه من خلقه في احسن تقويم بدني وعقلي فقال(لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) ([1]) .

كما أن المفهوم الحضاري في التعامل مع الإنسان هو ما ينطلق من منطلق رفع الإنسان وتكريمه عن غيره بما كرّمه خالقه عن كثير من الخلائق باحسن تكريم يوم قال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) ([2])

الأمر الذي يجعل وضع الإنسان خلاف هذا الموضع افراطا أو تفريطا, إذ أن وضعه فوق ما قد كرمه الله تَعالى يعني الافراط والطغيان للخروج عن حاجة البشر التي لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها.

كما أن وضعه بأقل مما قد وضعه خالقه يكون عين الجور والحرمان. لأن حضارية التعامل مع الإنسان تقتضي التوازن, وتعني الطريقة المثلى, فلا طغيان ولا حرمان .

وهذا ما لا يستوعبه ولا يتمكن من العمل عليه وبه من نزع في فهم الحياة إلى نوازعه الفردية, أو خلد إلى رغباته الحزبية, أو طرب على انغام احلامه القومية, وعاش جنة خيالاته الطائفية, أو استانس بأي نوع من أنواع الأنانية.

من هنا فلابد من فهم حضاري لكل حركة يتحركها الإنسان, ولا بد من التعلم على مناهج إمام الحضارة والتحضر الذي قال: (ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة ).

فلا بد  لأية حركة يتحركها الإنسان عملا كانت تلك الحركة أو قولا, تصريحا أو تلميحا, مشروعا أو غيره مما يكون لها في الواقع الخارجي وجود يحتاج فاعلها إلى معرفة وبصيره.

ومن دون معرفة لتلك الحركة يكون العمل وبالا, ويعد الفاعل جاهلا, لأن نقيض العلم الجهل, وخلاف العالم الجاهل .

وبناء على ما تمليه حضارية المنطق وجب أن يكون المرء عارفا بما ينطق, وعالما بما يصرح, وخبيرا بما يفعل ويقول, خصوصا في أمر يخص الآخرين من أهله بيته أو العامة من المجتمع.

أما الآن... وقد كثر اللغط  ونحن على أعتاب التصويت على الدستور العراقي الجديد, وذرايع البعض قي ذلك ضرورة ازالة الاحتلال أولا, وهو شرط لم تتوفر فيه العوامل الموضوعية اللأزمة لطرد الاحتلال وفي مقدمتها العوامل التالية:

العامل الأول: أن شعب العراق بعربه (شيعته) واكراده وتركمانه واقليات الدينية الأخرى لم تكن مهيأة نفسيا لإزالة الاحتلال, وذلك لأنها خرجت من سجن مظلم مؤبد طال قرابة أربعين عاما, اسمه العراق, كبّده مجازر ومقابر جماعية وما بينهما ارهاب وحرمان وإفقار واقصاء, وذلك بسبب استبداد النظام القومي الطائفي البائد, وبسبب تحالف الحكومات الطائفية العربية معه على تدمير العراق والعراقيين, وبسبب تآزر قوى التكفير الطائفي السلفي العربي معه, وبسبب تحالفاته الدولية ضد الشيعة في العراق الذي كان (النظام البائد) يخوف العالم منهم إذا ما جاءوا إلى الحكم, وبالنتيجة النهائية فإن الشعب لم يكن له أي استعداد نفسي على ازاحة (احتلال) ليعود شعب المقابر الجماعية إلى ذات السجن ونفس السجان, لأنه من عمل الحمقى الذبن لا يعقلون.

العامل الثاني: أما الشرط الآخر فإن طرد الاحتلال في هذه المرحلة يستوجب فتح العراق على كل شارد ووارد اوسع مما عليه الآن.

العامل الثالث: طرد الاحتلال الآن وبالظروف الموضوعية اعلاه يفتح البلاد من جديد إلى بقايا النظام البائد, وهو نظام اعتمد على تنظيم عمره قرابة الاربعين عاما, مع ممارسة متقدمة في الإرهاب, وخبرة فائقة في الاحتيال, وتفنن دقيق في الانقلاب على الرفاق فكيف بغيرهم من أبناء شعبهم ؟. كما له القدرة في التمرس على اساليب الهيمنة والاستحواذ على الحكم.

العامل الرابع: أن يفتح العراق إلى الأنظمة الطائفية العربية التي تعشعش فيها الخلايا النائمة والقاعدة, الفاعلة منها والخاملة للاحزاب التكفيرية التي تتقرب إلى الشيطان في ذبح العراق والعراقيين, كما يفتحه على عبث المخابرات الإقليمية والاجنبية وغيرها على اوسع الابواب, والنتيجة هي عودة نظام المقابر الجماعية من جديد ولو كلفة الأمر التلبس بلباس الديمقراطية والتمسح بمسوح الدين الارهابي الكاذب.

بينما المنطق يقول أن الشعب الذي قتله ونكل به نظام القومية الطائفية سوف لن يقبل بعودته من جديد, وأن الاحتلال أمر قائم وحدث واقع, وأن ازالته تحتاج إلى قراءه حضارية, كما يحتاج إلى منهج حضاري للتخلص منه, ومع هذه الظروف الموضوعية لم يبق لمحاولة ازاحة الاحتلال بقوة السلاح إلا التحالف مع بقايا النظام البائد ومن تضرر بزواله.   

وعليه فإن المنطق الحضاري يقول للذي يؤلب الناس على مقاطعة الانتخاب على الدستور بوجوب العمل على تحذير أمير المؤمنين عليه السلام إياه بقوله أن (زلة العالم كبيرة الجناية) ([3]) يعني أنها جناية كبيرة تفضي إلى كوارث كبيره, ولذلك صارت: (زلة العالم تفسد عوالم ) ([4])  كما نص  إمام الحضاريين عليه السلام.

فكان على العالم أو رجل العلم أن يكون على حذر فيما يفتي أو يقول, لما لقوله من تاثير اجتماعي وسياسي وغيره,  وبكلمته إما أن ينطلق المجتمع إلى الأمام أو يتدحرج بها إلى الهاوية والحضيض لأن: ( زلة العالم كانكسار السفينة تُغرق و تُغرق معها غيرها) ([5]), ولهذه الخطورة صارت زلة رجل الإنسان العادي مهما كان موقعه السياسي اقل من زلة العالم حيث (لا زلة أشد من زلة عالم) كما قال مربي العلماء وامير الفصحاء وسيد البلغاء والعارفين, ومعلم السياسة, ومربي السياسيين أمير المؤمنين عليه السلام .

أما بالنسبة إلى غير العلماء فإما أن يكون جاهلا, أو عاقلا يريد التعلم من العلماء, وعليه فإن تصريحهما يرجع إلى نسبة خطورة مراتبهما, وأن مراتبهما مترتبة على منازل عقولهما, فزلة الجاهل معروفة يخبرها القاصي والداني من الناس وبالتالي فلا يعبأ بها أحد وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام (زلة الجاهل معذورة) ([6]), بينما قال ( زلة العاقل محذورة ) ([7])  لأن العاقل يستطيع أن يوجّه  أية قضية بما تهوى نفسه ويميل إليه هواه إذا ما هيمنت نفسه على عقله فتكون عندئذ ( زلة العاقل شديدة النكاية) ([8]) .

أما العاقل الذي يهيمن عقله على نوازعه وعصبيته فهو الذي يستطيع أن يميز متى يقول ومتى يجب أن يحجم عن التصريح سياسيا كان التصريح أو فتوى أو غيرها.

من هنا كانت حضارية منطق الإسلام تحكم بوجوب مراقبة اللسان خصوصا من العاقل الذي ينظر الناس إليه نظرة احترام, وبوجه اخص لسان العالم لأن (زلة اللسان أنكى من إصابة السنان ) ([9]).

وعليه فلا يُدلين المرء برأي دون النظر إلى عواقب الأمور حيث (زلة الرأي تأتي على المُلك وتؤذن بالهُلك) ([10]), فكم من رأي أهلك اُمما, وما عراقنا اليوم إلا كاشفا عن ضرورة الاحتكام إلى هذا المنطق, إذا لم يجر العراق إلى الاحتلال إلا دكتاتورية الرأي السياسي, واستبداد الفتوى غير الناضجة التي تضافرت في تمزيق البلاد وتمكين الطاغوت من العباد.

ونحن الآن على اعتاب الادلاء بالراي على الدستور, يلزم علينا الوقوف على الحقائق المتعلقة بالشؤون التالية:

 

الشأن الأول: فيما يخص دستور العراق

 

وحول هذا الشأن يمكننا ذكر الحقائق التالية:

الحقيقة الأولى:الدستور العراقي دستور متميز في تاريخ العراق

لم يكن الدستور العراقي الجديد بالدستور الالهي المسدد من السماء ولكنه دستور حسب اطلاعي واطلاع الخبراء لم ياتي على العراق دستور يسن قانونا لخدمة العراقيين مثله قط منذ أن غابت عدالة أمير المؤمنين عليه السلام ودستوره عن العراق, وأن من قرا التاريخ يستطيع أن يخبر ما أقول.

الحقيقة الثانية: الدستور العراقي دستور اهتم بالإنسان وليس بالحكومات والدول

إن ما يراد من الدستور هو أن يعطي الإنسان العراقي حقوقه كانسان, ويحفظ احترامه كمواطن, وهذا ما يجده صاحب النظرة البسيطة فضلا عن العارف الخبير بهذا الدستور, وأن كل ما فيه هو للإنسان بعيدا عن تفضيل عنصر على آخر أو دين أو مذهب على غيره, بل لم يات على تغليب أحد من العراقيين على أحد .

الحقيقة الثالثة: الصياغة العراقية للدستور

إن الدستور الذي يراد التصويت عليه هو الدستور الوحيد في تاريخ العراق بل وتاريخ البلاد الإسلامية,  فقد تمت صياغته بعقول  العراقيين جميعا على كافة مذاهبهم واختلاف مشاربهم, وهذه ظاهرة ايجابية انفرد بها هذا الدستور, وحالة متقدمة في تاريخ الدساتير العالمية.

الحقيقة الرابعة: انتخاب الشعب لعقول صياغة الدستور

وهذه مزية اخرى تميزه عن كل دساتير العالم الإسلامي,  خصوصا وأن الانتخاب قد جرى تحت ظلال السيوف وحد الذبح والإرهاب والتخويف والموت الزؤام, وأن شعبا اقدم على  انتخاب رجال صاغت له الدستور بهذه المقدمات الخطيرة والظروف الحرجة لحري بان يعض عليه بانيابه.

 الحقيقة الخامسة: العقول التي صاغت الدستور ممتحنة بارهاب النظام البائد

وهذه حقيقة لا يمكن تجاهلها حيث أن الرجال التي عملت في صياغة الدستور وعرضت اطروحاتها وساهمت فيه إنما كانت ممن قد عانت من ارهاب النظام البائد ودمويته وقاست السجون, ومحن الحرمان والإقصاء والاستبداد, وأن الايادي التي كتبت الدستور قد تلوّتْ عليها سياط الجلادين, والرؤس التي فكرت بصياغته طالما تهشمت فوقها مقامع الطغاة الطائفيين. وبالتالي فإن ما فكرت به تلك العقول كان من صميم حاجة الشعب, وانبثق من رحم المعاناة التي عانتها طوال السنين العجاف, وهذه حقيقة يجب عدم التغافل عنها حين التصويت على الدستور.

 الحقيقة السادسة: التقييم الحقيقي للدستور

من خلال قراءة المطلع الواعي النّزيه إلى تاريخ الدساتير العراقية السابقة, وما قدمته اطروحة الدستور الحالية من بنود وقوانين, يجب عدم التغافل عن أن هذه الاطروحة ترافقت مع معاناة شديدة لمؤثرات كثيرة منها التالية:

المؤثر الأول : عرقلة الأسافين التي وضعتها الادارة الأمريكية في منهاج بريمر للعراق والمعروف (بقانون إدارة الدولة العراقية للفترة الانتقالية),كإسفين خضوع الأغلبية لراي ثلثي ثلاث المحافظات (والذي يعني ترجيح رأي الأقلية على الأغلبية) وهذا خروج على موازين الديمقراطية التي يتزعمها اهلها.

ثم إسفين تأصيل مبدأ ومفهوم وثقافة المحاصصة القومية والطائفية الذي فرز ظاهرة (التوافق السياسي) الذي يراد به أن تتنازل الأكثرية لصالح الأقلية, وإن لم تقبل بالتوافق السياسي فلها خيار حد السيف والذبح الطائفي (المقدس ؟), وهذا المنطق هو عين الخروج على مباديء الديمقراطية في الانتخاب.

وإسفين تعليق الملف الأمني وما لحقه من كوارث سياسية ومجازر دموية وخلل اقتصادي وتردي عمراني وخروقات ادارية وغيرها, إذ لو قد تم بتر رؤوس الإرهاب والفساد السابق لما وصلت الأمور إلى ما هي عليه إلان....  

ثم إسفين..وإسفين....وإسفين...

 المؤثر الثاني: وهو مؤثر بقايا النظام البائد والمنتفعين بوجوده والمتضررين من غيابه, لما لها من محاولات الضغط على صياغة الدستور .

المؤثر الثالث: وهو مؤثر حكومات الأنظمة الطائفية العربية ودورها في الضغط على حكومة الاحتلال في تغيير المسارات الوطنية لصياغة الدستور, مثل قانون الإرهاب وما تبعه من لواحق بشأن رؤوس النظام البائد, وقانون الجنسية العراقية, وقانون الحكومات المحلية (المعروف بالفيدرالية)  وغيرها من القوانين.

المؤثر الرابع: وهو مؤثرات الأمم المتحدة التي ما اتحدت إلا لصالح الحكومات على حساب الشعوب وهو عامل أساس في تدمير شعب العراق واقتصاده وقد رايناها تعترض على بعض البنود مثل المادة (44) من الدستور التي تنص على ان:

(لجميع الافراد الحق في التمتع بكل الحقوق الواردة في المعاهدات والاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الانسان التي صادق عليها العراق, والتي لاتتنافى مع مبادئ واحكام هذا الدستور) فاعترضت على الفقرة الأخيرة القائلة(والتي لاتتنافى مع مبادئ واحكام هذا الدستور) مثل حرية الفساد الاخلاقي والشذوذ الجنسي الذي تعده المواثيق الدولية من الحريات المشروعة. فاعترضت الأمم المتحدة على هذه الفقرة مما اضطر إلى إلغاء المادة كلها كما عرفنا.

الحقيقة السابعة: الدستور ناضج رغم تحفظات الجميع عليه

لابد من التسليم بأن إجماع الشعب بكافة مكوناته على كل طموحاتها حول الدستور أمر مستحيل, لإن اتفاق الجميع على جميع ما فيه يعني انهم فكر واحد ومنهج واحد وثقافة واحدة, وبما أن نسيج العراق متلون قوميا ومذهبيا ودينيا فلا يمكن تلبية طموحات الجميع على وجه الإطلاق, وأن خرج الجميع بهذه الصيغة من الدستور يعتبر أمرا متقدما جدا, خصوصا إذا وضعنا في عين الاعتبار أن الله الذي خلق الخلق وهداهم السبيل ومنحهم العقل ومكّنهم من موارد الأرض والسماء وما فيهما, وصاروا يعيشون أنفاس حياتهم لحظة بلحظة بفضله تَبارَكَ وَتَعالى ومع ذلك كله لم تر اجماعا منهم على عبادته وطاعته والالتزام باوامره, كما اخبر تَعالى  نبيه الكريم بقوله (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) ([11])   وقال عن نكرانهم الجميل وعدم اجماعهم عليه (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) ([12])

 

الشأن الثاني: فيما يخص الناخب في العراق

وفي خصوص هذا الشأن يجب ذكر الحقائق التالية:

الحقيقة الأولى: الإنسان حر في انتخاب ما يريد

 وبهذه الحقيقة ثبوت لحق الإنسان في أن ينتخب ما يريد من دستور, وليس لأحد ارغام آخر على القول ب( نعم) أو( لا), فحرية الإنسان تقتضي ذلك, لأنه حر عاقل وسيتحمل تبعات تصويته إذا انتخب ما ينفعه أو ما يضر, إلا أن الأمر الذي يُختلف فيه هو أن يسلب أحد غيره حريته فيحرضه على العمل وفق رأيه. وهذا خلاف المنطق الحضاري الذي يمنع من استعباد الناس حيث نص بالقول ( لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا) , لأن الإنسان حر مكلف, وهو المسؤول عن فعله وتصرفه وانتخابه, لأن حضارية منطق الإسلام تقول: (بَلِ الإنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) ([13]),

الحقيقة الثانية:  وجوب العمل بحضارية منطق الاستفتاء

فلقد اعتاد العراقيون على استفتاء تكون فيه النتائج تسعة وتسعون بالمائة, وليخرج الناس بعده تحت سياط الترهيب والترغيب بزعيق يصم الآذان بهتاف (بالروح بالدم نفديك يا....), أما اليوم فإن بقايا نظام الاستفتاء بال( 99%) واعوانه والمتضررون من زواله يريدون ارغام الناس على ترك الانتخاب تحت ظل السيف والتهديد والترويع, بينما المنطق الحضاري للانتخاب هو أن يدلي كل فرد برأيه بحرية دون تخويف أو اكراه. أما أن يراد للاستفتاء ليكون تحت ظل السيف والرعب والتهديد فذلك هو منطق الغاب, لأن منطق التحضر يقول(وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) ([14])

الحقيقة الثالثة: التحضر يحكم بالتسليم لرأي الأغلبية

وذلك حينما يقول  القرآن الكريم: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ), وتقول الديمقراطية بالرأي الجمعي كذلك, وكلا المبدأين يحكمان باحترام نتيجة الانتخاب والتصويت, وجب عندئذ على كل من يؤمن بالاسلام, ويلتزم الديمقراطية التسليم إلى الرأي الجمعي وانتخاب الشعب, لينتقل بعده إلى العمل على ثقافة البناء لا الهدم الذي عملت به النظم العراقية السابقة.

الحقيقة الرابعة: الجاهلية تحكم برفض التسليم لرأي الأغلبية     

ثم أن الذي لا يريد التسليم إلى رأي الاغلبية السياسية عبر التصويت, ويعمل بثقافة الإرهاب الدموي والاكراه السياسي, ويستانس بمنهج العنف ولغة الاغتيالات وسبيل المفخخات, يعلن للعالم والإنسانية ويكتب على جبين التاريخ أنه لا يحب إلا الدم, ولا يعرف لغة التحاور إلا تحت شبح الرعب والتخويف والتهديد والإكراه, وبذلك فإن مثل هذا الفكر مآله إلى الزوال, لأنه سيفرز نفسه في تجمع الغاب وثقافة المخلب والناب, وهي ثقافة الجاهلية الأولى وجماعة التخلف لا التحضر.

الحقيقة الخامسة: التعقل حين التصويت

بناءا على الحقائق الواردة اعلاه بشان الدستور على ما فيه من تحفظات على عدم كماله بشكل مطلق, يجب على العاقل أن يكون على بينه وروية فيما يحكم ويقول في انتخابه, وأن يضع في عين الاعتبار أن الذين يراهنون على نقضه إنما  يريدون إسقاط الجمعية الوطنية التي انتخبها الشعب بدمه, ويريدون للعراق الدخول في دوامة كارثية جديدة, وانهم لا يمثلون في الواقع إلا اقلية من مجموع السياسيين للطائفة السنية, لأن الكثير من سياسيي الطائفة السنية جزء فاعل في العملية السياسية الحالية, وأن جُلّ المعترضين هم من بقايا النظام البائد واتباعه الطائفيين وأعوانه المتضررين من زواله.

ولا تنسى ذاكرة التاريخ الحديث كيف تعامل العراقيون من شيعة أهل البيت عَلَيهم السَلام بحضارية تامة وصدق اخوي مُتناهٍ مع إخوانهم أهل الطائفة السنية الذي اضطهدوهم في ظل حكومتهم (العثمانية), فتسارع علماء الشيعة وقادوا العراقيين في حرب التحرير ضد الاحتلال البريطاني في مطلع القرن الماضي, ولما أن اشتد عود اخوتهم من الطائفة السنية وقويت شوكتهم وحكموا العراق من جديد اعتبروا أهل التحرير غرباء, وقادة التحرير اعاجما, وانقضوا على إخوانهم  الشيعة وقادة التحرير في العراق فاخذوا يسومونهم سوء العذاب, ويذبّحون أبناءهم, ويستحيون نسائهم حتى هذا اليوم واللحظة.

وبعد هذه الحقائق …

 فهل يريد العراقيون المذبوحون أن يعيدوا الكرّة ويتضامنوا مع ذباحيهم من جديد ؟

وهل من عاقل يفعل ذلك, وقد قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيةِ وَآلِهِ وَسَلَّمَِّ : ( إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين) ([15])  وفي حديث الإمام الصادق  عليه السلام : ( المؤمن حسن المعونة, خفيف المؤونة, جيد التدبير لمعيشته, ولا يلسع من جحر مرتين) ([16])  ولأنه مؤمن ولا يلدغ من جحر مرتين, فهو حسن المعونة لإخوانه خفيف المؤونة عليهم فلا يظلمهم ولا يسلمهم, ولا يسومهم سوء العذاب, ولا يقتل أبنائهم, ولا يستحيي نسائهم كما فعل بهم إخوانهم من قبل, لأن المؤمن حضاري, والحضاري انساني, وأن ائمته أهل بيت عُرفوا بالعفوا والمغفرة, وقد قال شاعرهم:

ملكنا فكان العفو منا سجية             فلما ملكتم سال بالـدم ابـطح

وحللتم قتل الاسارى وطالما             غدونا عن الأسرى نعف ونصفح

وحسبكم هذا التفاوت بينا                وكل أنـاء  بالذي فيه ينـضح

 

[1] - سورة التين / اية 4

[2] - سورة الاسراء / اية 70

[3] - غرر الحكم ودرر الكلم

[4] - المصدر السابق.

[5] - المصدر السابق.

[6] - المصدر السابق.

[7] - المصدر السابق.

[8] - المصدر السابق.

[9] - المصدر السابق.

[10] -المصدر السابق.

[11] - سورة يوسف /آية 103

[12] - سورة سبأ / آية 13

[13] - سورة القيامة/ اية 14

[14] - سورة الشورى/ آية 38

[15] - شرح نهج البلاغة لإبن ابي الحديد ص177 ج4

[16] - الكافي ج2ص241

   

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com