حياة شرارة ـ كاتبة

فرادة في الابداع وتعدّد في النوع

نبيل العطية

في الاول من ايلول من عام 1997 غادرت الحياة كاتبة عراقية قديرة، وأستاذة جامعية بارزة، تلك هي الدكتورة حياة شرارة، غير ان مما يؤسف عليه أنها فارقت الساحة الثقافية بطريقة غير تقليدية، وباسلوب مأساوي هو الانتحار.. لقد كانت حياة في سلوكها الاجتماعي، وتوجهها الثقافي، وانتاجها العلمي، ورؤيتها الحياتية ضد النزعة الظلامية مؤمنة بالانسان، وحتمية انتصاره، كما كانت مفعمة الاحساس بالمستقبل الزاهر، ولكن الظروف وقساوة الطغيان، وثقل الحصار، كل ذلك أضعف روح المقاومة لديها، وهذا هو الذي كان...يمتاز انتاج حياة بالتنوع، فقد كتبت: الرواية، القصة، الدراسة، المقالة والترجمة، كما انها زاولت (التحقيق) ونظمت الشعر، ومع تعدد المناحي الثقافية، واختلاف منابعها سعة في الثراء، وعمق في الغنى. وظني في تفسير هذا يرجع الى نشأتها الادبية، فقد عاشت في بيئة يؤمها الشاعر والقاص على حد سواء، وكان والدها المرحوم محمد شرارة نفسه شاعرا كبيرا أسمعها الكثير من شعره، كما كان ذا مجلس أدبي عامر يحضره عمالقة الشعر كالجواهري، السياب والبياتي. في هذه الاجواء الزاخرة بالادب، والشعر والثقافة ازدهرت شخصيتها ونمت، فأحبت الشعر وحفظت عيونه، وآمنت بالكتاب وسيلة ابداعية، وبالثقافة منهجا حياتيا. كان ذلك منذ نعومة الأظفار، وصغر الجدائل، وطراوة العقل، وطفولة المخيلة. وسمحت الحياة لحياة ان تسافر الى روسيا، بلد الرواية والقصة القصيرة، بلد دستوفسكي، بوشكن، انطوان تشيخوف، تولستوي وغوركي، والرعيل الاول من عمالقة الثقافة لدراسة الادب الروسي عامة وتولستوي خاصة. حياة والدراسات الادبية وحياة دارسة عميقة، ودراستها قائمة على التحليل والغوص الجاد وراء الظواهر، وفحص مفردات المنجز الابداعي بطريقة أخاذة. يتضح ذلك في كتابها "تولستوي فنانا" فقد درست هذا الكاتب الكبير بعناية تامة، معبرة عن مقدرة في الاستقصاء، وجمالية في الطرح، ونظير ذلك كتابها "الادب الروسي في القرن التاسع عشر" الذي ينطوي على دراسة حياة مجموعة من أعاظم الكتّاب الروس بشكل جذاب مع تحليلات أدبية موضوعية لتلك الشخصيات. على أن اهتمامها بالادب الروسي لم يصرفها عن الالتفات الى دراسة حياة شاعرة كبيرة هي نازك الملائكة. فكان كتابها "صفحات من حياة نازك الملائكة" الصادر ببيروت سنة 1994 دليلا على ذلك! حياة والرواية وتأتي روايتها "اذا الايام أغسقت" الصادرة بعد وفاتها بمراجعة وتقديم شقيقتها الاديبة بلقيس شرارة لتعبر عن معاناة الاستاذ الجامعي في ظل النظام السابق، والمواجهات الحادة التي اضطر الى خوضها. وعلى الرغم من "ترهل" هذه الرواية، واغراقها بفيض من التفاصيل غير الضرورية، بمعنى انه كان بالامكان الاقتصاد في حجمها مع سلامة المنهج، ووضوح الرؤية، بيد أن حياة لم تفعل ذلك لحرصها الشديد على ادانة هذا النظام بأوسع ما يمكن من الكلمات، وأقوى ما تستطيع، مفضلة سيادة النزعة الفوتوغرافية مع الايضاح المبسط على وجازة الالفاظ، وابهامية المحتوى! حياة والترجمة وتعد حياة – دون مبالغة – واحدة من احذق المترجمين العراقيين: سلامة في المنهج الترجمي، ودقة في نقل النص مع اضفاء الطابع الحيوي على النسيج اللغوي الجديد. وعكست اهتمامها في هذا الميدان ترجمتها كتاب "فن الترجمة" لـ(ك سورينيان) و(س. فلورين) و(فل روسيلي) الصادر ببغداد سنة 1979 يتضمن هذا الكتاب مجموعة من التجارب الغنية في حقل الترجمة التي لا غنى للقراء عنها، وفي مقدمتها له أبانت عن مفهومها للترجمة بوصفها علما للتعارف، والتقارب، والتفاهم والتفاعل بين الشعوب وثقافاتها لا "مجرد نقل أفكار، بل هي بالدرجة الاولى– عملية ابداعية". وشبيه بهذا ترجمتها لـ"تشيخوف بين القصة والمسرح" لمجموعة من الكتاب. صدر هذا الكتاب ببيروت سنة 1975، ولغة هذه الترجمة صافية، وأسلوبها شائق. حياة والمقالة وحياة مقالية ممتازة وأسلوبها في "المقالة" دال على ضلاعة وتمكن، وجُلّ ما كتبته متعلق بروايات روسية كرواية بوشكن "يفغيني انيغن" وتورغنيف "الآباء والبنون" وغوغول "الارواح الميتة"، الى جانب موضوعات اخرى، من نحو مقالها عن المرأة بين روايتي "زقاق المدق" و"النخلة والجيران" و"يسنين من الربوع العربية" وسواها في المقالات. حياة والتحقيق ولتوطد علم التحقيق في أدبنا العربي، وتقديرا ووفاء لعبقرية والدها فقد حققت كتابه "المتنبي بين البطولة والاغتراب" كما حققت كتابه "نظرات في تراثنا القومي". وقد بدت حياة في كلا العملين محققة مقتصدة في استخدام "الحواشي" فلا ترهل في الشرح، ولا اسراف في التعليق. وبهذه الطريقة انتمت حياة الى المدرسة الحديثة التي تعنى بتوثيق النص، وكشف غوامضه بايجاز ودقة! حياة والشعر ليس غريبا ان تكتب حياة الشعر وقد تربت في أحضان بيئة شعرية، ورعاها شاعر كبير هو والدها محمد شرارة. لحياة ديوانان اثنان هما "قصائد قديمة" و"شفق الفجر" لم يُنشرا كما اعلمتنا شقيقتها بلقيس. ان اديبة مرهفة الحس، غنية بالمواهب لابد ان تكتب الشعر الجيد المفعم بالموسيقى، والنغم العذب... وأخيرا لقد خسرت الساحة الادبية العراقية والعربية اديبة ناشطة وظفت قدراتها في خدمة الثقافة التقدمية وأدبها الحي، وساهمت بفاعلية في كشف افلاس النظام الدكتاتوري، وفضح اساليبه، وممارسة القمعية. وبذلك اصطفت الى جانب كل الادباء الوطنيين ممن جعلوا الكلمة النيرة هدفهم الأسمى.
الذكر الخالد لحياة شرارة!

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reser-ed.
 info@bentalrafedain.com