واحات

قافلة أزاهير المهاجرة

مريم المدحـوب / البحرين

girls.center@hotmail.com

همومٌ ثقيلة كدسها الزمن الأسود في القلوب البريئة.... مقلات مسهدة.. تناثرت منها الدموع كرشات مطر تبلل وريقات الزهور الندية.. رياح قوية تركت أثرها في الأغصان الطرية.. حتى غلغلت جذورها في الأعماق.. فتشبثت وتفرعت باحثة عن المعادن الإيمانية الكاملة في بستان الحياة.. حتى وصل الأمر بها إلى نهر الوحدة وترك الصاحب والخليل.. هذا هو حال أزاهير.. إذ أنها حبست نفسها في قعر صدفة بيضاء تقيها أشعة شمس الشيطان المحرقة.. فلم تعد تستسقي العلم في المدرسة.. عزلت نفسها عن المجتمع.. أحست المدّرسات بكثرة تغيبها وتخلفها عن ركب المسيرة الدراسية..

ففي ذات يوم..

أطلت الأستاذة هاله( مدّرسة التربية الدينية ) ووجهها النوراني يتلألأ من بين خمارها.. وكأنما حبة لؤلؤ بيضاء وضعت على قطعة مخملية سوداء.. بدأت درسها بحمد الله والثناء عليه.. أثناء حديثها لفت انتباهها خلو احد المقاعد الدراسية.. توقفت قليلا وبتساؤل واضح بدا عليها قالت ( منذ بداية الفصل الدراسي وأنتن تقلن لي صاحبة هذا الكرسي غائبة.!. فها هو الأسبوع الثاني بدء ولم نتشرف برؤيتها.!!. ألا تعرفنَ ما هو أمر هذه الفتاة ؟!) تنابست الفتيات فيما بينهن.. وأخذ البعض يضحك ساخرا.. واحدة تقول اللقلق* غائبة يا آنستي.. وأخرى تقول.. المعقدة.. وكل له تعبيره..

اندهشت هاله وباستغراب شديد صاحبه ضربة قوية من يدها على الطاولة ( ما الأمر يا بنات !؟ ) وقفت ضحى بكل حزن وأسى ( آنسة.. الفتاة التي تتحدثين عنها اسمها أزاهير ).. رفعت حاجبها الأيسر متسائلة ( وما حكاية اللقلق ؟!.. لماذا نعتها البنات بهذا ؟!) ضحى وبصوت مبحوح بعض الشيء ( أزاهير فتاة.. مغرمة بطائر اللقلق.. هو شعارها.. تحبه حتى الجنون !) صمتت هاله لبرهة تفكر في حكاية هذه الفتاة ذات الرابعة عشر عاما ! ما سر عشقها لهذا الطائر ؟! تقطع عليها إحدى الطالبات تفكيرها ( أستاذة.. أزاهير متعلقة بهذا الطائر تعلق غير طبيعي !.. ففي العام الماضي كانت تلصق صوره على كل دفاترها وكتبها ! بل أكثر من ذلك.. عندما نجلس معها في برنامج المحادثة المسينجر (messenger) تكتب اسمها المستعار ( طائر اللقلق المهاجر ) ! وتضيف أخرى ( لقد ذهبت ذات يوم لزيارتها في منزلهم.. أدخلتني إلى غرفتها.. لم أجد ركنا لا يحوي شعار هذا الطائر.. فإن لم تكن صورته.. فأسمه.. أو عبارات خطتها بيدها عنه ! ) علامة تساؤل كبرى وتعجب أكبر رُسمت على وجه هاله.. لم تصادف قط حالة كهذه.. اعترتها الحيرة ! هل تواصل الدرس أم تستفسر أكثر عن هذه الفتاة ذات الطور الغريب ؟! فقررت الخوض في حديث أزاهير لعلها تتمكن من اصطياد خيط يوصلها لمعرفة حقيقة هذا الحب الشديد.. والتعلق الغريب ! فقالت ( من هي أقرب فتاة إلى قلبها منكن ؟!) الجميع أومأ بيده إلى ضحى.. هزت رأسها ضحى بتأكيد ذلك.. خاطبتها هالة ( هل تعرفين سبب ارتباطها بهذا الطائر ؟!) وضعت يدها على ذقنها وأخذت تفكر ماذا تجيب ؟! إلى أن قالت ( عندما أجلس معها تحدثني بكلام لا أفقه معناه !.. تقول أنها تبحث عن عالم نقي.. عالم يسمو فيه العبد إلى مدارج الكمال.. وهذا الطائر إنما شعار لهذه الحياة التي تبحث هي عنها.. لا أعلم ماذا وجدت فيه ! ) تتابع هاله تساؤلاتها (حسناً.. وما هو موقف أسرتها ؟! ) تنهدت ضحى تنهيدة حارة ( أهلها ! المسكينة يتيمة.. لا أحد يسكن معها إلا جدتها ا ). دفعت هاله بورقة بيضاء وقلمها الأزرق لضحى ( هل من الممكن أن تكتبي لي عنوان سكنها ورقم هاتفها ؟!) ضحى بخجل ( في الواقع.. قد لا ترضى هي بذلك.. سأكتبه لكِ ولكن لا تخبريها أنني من أعطاكِ إياه ! أخشى أن تقطع علاقتها بي.. فتصفى بلا صديق ! ) تبسمت هاله ( شكراً لكِ).

 وفي الساعة الخامسة عصراً..

وصلت السيدة هاله إلى منزل أزاهير وقد أخذت معها هدية بسيطة لطالبتها.. فتحت أزاهير الباب.. وبأدب جم استقبلت أستاذتها.. وعندما جلست هالة قالت ( أخبريني أين جدتكِ ؟! أود أن القي التحية عليها ).. شعرت أزاهير بدفء مشاعر آنستها ( جدتي.. توجهت لزيارة جارتنا المريضة ).. فأردفت هالة ( وهل جدتكِ بحالة صحية تسمح لها أن تخرج من المنزل ؟! ) تبسمت أزاهير ( جدتي ليست عجوز إلى هذا الحد.. ).

أشارت بيدها إلى الهدية التي جلبتها ( أزاهير.. هذه لكِ يا زهرتي.. أتمنى أن تفتحيها الآن لأرى انطباعك عنها ).. همت أزاهير لفتح الهدية.. وعندما فتحتها كانت المفاجأة ! فرحت كثيراً لدرجة أنها عانقت مدّرستها وقبّلتها ( أنتِ رائعة.. يا أستاذة هاله..) ولكن من أخبركِ أنني أحب هذا الطائر حتى أخذت لي صورته ووضعتها في هذا الإطار الخشبي الجميل ؟! ضحكت عاليا وقالت ( هذا سر ).. ضمت أزاهير الصورة إلى صدرها وقالت ( ما رأيك به ؟! رائع أليس كذلك ؟! ) أجابتها هاله ( بالطبع.. ولكن أود منكِ أن تخبريني سر هذا العشق له.. حتى أعشقه معكِ ) فقالت أزاهير حسنا ( لطالما بحثت عن عالم تسمو فيه روحي نحو عالم الملكوت.. وكلما هممت بتهذيب نفسي فأرى نفسي تخاذلني.. ما إن أجلس مع الفتيات حتى يبدأن بالغيبة.. والاستهزاء.. كرهت هذه الحياة التي يعشنها.. أبحث عن حياة لا يعكر سماء قلوب سكانها الشكوك و الضنون ! فقررت الابتعاد عن الناس ومن تلك اللحظة بدأت شيئا فشيئا أنسج لي قوقعتي الخاصة.. وفي أحد الأيام وبينما أنا جالسة أقرء كتاباً وقعت بين يدي رواية عن الإمام الحسين عليه السلام أعجبتني.. هذه الرواية كانت عن هذا الطائر.. تركتني أتعلق به لأنه يوافق تفكيري وهو طائر حكيم ). بشوق لمعرفة المزيد تستطرد هاله ( وما هي هذه الرواية ) ؟!

أزاهير بترنم (إذا صاح اللقلق يقول من تخلى عن الناس نجا من أذاهم ).. فأنا دائما أقلد صوته.. هذا الصوت الذي لا يفقه زميلاتي معناه ! آنستي.. ألا تعتقدين بصحة نظرتي في الحياة ؟!

هاله بحنكة وأسلوب حضاري ( شعار رائع.. ) صفقت أزاهير لأستاذتها ( يا سلام.. أنتِ الرائعة.. وأخيراً وجدتُ من يفهمني في هذه الدنيا ).

تتابع هاله بابتسامه لطيفة ( شكراً لكِ غاليتي.. ولكن دعيني أسألكِ سؤال ؟! )

- تفضلي..

- ما هي الأذية التي تعرضتِ لها من الناس ؟!

- تلويث روحي.. لقد لوثوني بكلامهم.. بعض الأحيان يسيطر علي الشيطان فأشترك معهم في أكل لحوم الناس ! وأنا أخشى النار.. وعذاب يوم القيامة فأنعزل عنهم أفضل لي.. وأدرهم يخوضوا في أحاديثهم كما يشاءون.

- حسناً.. أنا أتفق معكِ في أن لا أترك أحد يلوث نفسي.. وينزل بها إلى الدرك الأسفل في الجحيم.. حيث أنني أخشى نار الله تبارك وتعالى.. ولكن ألا تعتقدين أنكِ بانسحابكِ هذا ساهمتِ في تعزيز نمو هذه البيئات الشيطانية ؟! فبخلتي على الآخرين بالرد.. ألا تعتبرين نفسكِ أنانية ؟!

- يا أستاذة.. أنا لا أستطيع تغيير الكون.. أنا بالكاد سيطرت على نفسي..

- هل العشق الإلهي والارتباط بحبل الله المتين يأمرنا بالابتعاد عن الناس ؟ وتجنب مخالطتهم ؟! عزيزتي أزاهير.. ليس هذا هو الحل.. إنما الحل أن نجلس معهم ونردعهم بأساليبنا الخاصة.. نكون الشمعة المضيئة في عتمة ظلام الليل..

- وما هي الأساليب الخاصة ؟!

- مثلاً.. ما أن تجلسين مع صديقاتكِ حتى تبدئين بطرح مشكلة تعاني منها الفتيات.. مشكلة مشتركة تسترعي انتباههن... تتناقشن فيها ومن ثم تطرحنا الحلول.. أن تطرحين عليهن قصص الأبرار.. تنورين قلوبهنّ بذكر روايات أهل البيت.. بتفسير بعض من آيات القرآن الكريم.. وهكذا..

- برأيك سينجذبن لي ويتركن مجالس البطالين ؟!

- حاولي وبإذن الله ستنجحين..

- ولكن ماذا لو استمروا في طريقهم ؟!

- بعد ذلك انسحبي من الجلسة بكل هدوء ليشعرن بعدم ارتياحك.. حاولي هداية صديقاتكِ الفتيات.. استقطبي أكبر عدد ممكن منهن ووجهي قلوبهن نحو الله.. لتكون قافلة البراءة المهاجرة نحو الله بقيادة أزاهير.. فعندها ستكونين أقرب بكثير إلى الله من الآن.

- الله.. كم هي بديعة كلماتكِ..

- إذن.. أفهم من ذلك أننا سنراك غداً في المدرسة.

- إن شاء الله.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com