حزني اقوى من قدرتي

 

د.اسعد الامارة - السويد
استاذ جامعي وباحث سيكولوجي

elemara_32@hotmail.com

يعرف الحزن بأنه المشاعر التي تتملك الانسان وتسيطر عليه وتزيح لحظات التوازن او حالته الى شئ لا يطاق وغير مسيطر عليه، ان حزن الانسان اذا كان ذو اسباب معروفة فانه يتحدى القدرة والطاقة على التحمل، فحزن تلك المريضة الشديد بموت امها، لم يكن حزنا سهلا او هينا او حزن تلك المرأة العجوز على ابنها الوحيد الذي فقدته ولم ترى ساعات فرحته الحقيقة بزواجه او لم شمل محبته طيلة عمرها، لم يكن الا حزنا جاء متأخرا على فقدان هذا الوحيد، فقد كانت كل حياتها التي عاشتها تتركز في العناية بهذا الولد، وخاصة انه من الواضح ان حبها لابنها الوحيد عوضها عن الكثير ما كانت تتمناه ولم تظفر به وذلك من خلال توحد نرجسي بهذا الفتى الذي ترك فيها شبيها قويا بتوحد الزوج – الاب بأبناءه وهي كانت تنظر له نظرة توحد نرجسي ابوي وامومي بنفس الوقت، تحاول من خلاله ان تحقق لنفسها في شخص ابنها ما كانت تحلم به وهو كبير.

اننا نتسائل الا يحق لاي انسان ان يثور او يغضب ويستمطر اللعنات على من سلبه سلواه في الحياة، هل لنا ان نتعايش مع هذا الحزن ولو للحظات، رغم انه حزنا موجها نحو شئ معروف ومحدد !! كيف الحال اذا كان الحزن هائما محطما للنفس، لم تسعفه ملذات الحياة ومباهجها ان تزيل ولو شيئا من هذا الجحيم والعذاب المصحوب باحساس شعوري قوي بعدم القدرة على التحمل حتى كاد ان يشق على الانسان طاقته في مواجهته، انه آلم الحزن الملحوظ الذي يؤدي الى انخفاض في تقدير النفس لذاتها، ينسحب ذلك بوضوح كامل على السلوك وحركة اليدين والمشي وعلامات الوهن الناجم من هذا الحزن، انه نقصان شديد في النشاط العقلي والحركي. يشعر صاحب هذا الحزن ان لا شئ يسعفه ويسانده في تلطيف حدة هذا الالم، انها كراهية الذات لنفسها !! في مثل هذه الظروف التي يعاني منها اي منا يتخلق الاكتئاب في صور متدرجة لا يحس بها الانسان، يبدأ من الحزن الهائم او ذو الاسباب الى الحزن العصابي المصحوب بالآلم. ان الفرد الذي يحزن بعمق سواءا كان بسبب او بدون سبب، يمر بحالة حداد ربما يكون دائم. هذا الحداد يعتقد صاحبه انه هو المسؤول عنه فيكتئب لانه لم يستطع ان يحفظ الابن المفقود او الزوج او الابنة التي قتلت او ماتت بمرض، انه لم يستطع ان يحفظه او يحفظها من الفقدان وكأنه فاعله. هذا الحداد والآلم هو الذي يقود الى الاكتئاب الذهاني – العقلي. وهو الذي ينتهي بالفرد الحزين والمتألم بشدة الى الانتحار، الا اذا كان معتقدا اعتقاداً قويا وجازما بقدرة الخالق، فيبعده هذا الاعتقاد عن النهاية المحتومة.

ان حوار المتألم وحزنه الشديد مع نفسه ينطلق من فكرة مؤداها بقوله : انظر كيف اتألم، وكم اتعذب من اجلك وأعذب نفسي، اصفح عني وداوني بحبك وقبولك لي لكي ارتاح، انني سبب كل الذي جرى لك وما يجري لي.

ان من اهم سمات الحزين والمتألم تميزه الدائم بالحساسية البالغة واستعداده للاحباط الذي يتخذ صور عدة واشكال لا حصر لها من الاوجاع النفسية ابتداءا من الجرح النفسي، اي كل خيبة آمل يعدها ويستشعرها فقداناً حتى قبل حدوث الموت للابن او البنت او استشراء هذا الآلم الشديد في النفس، انه مجبول بشخصية لها الاستعداد لان تكون حزينة ومتألمة على الدوام حتى في افضل ساعات الفرح او ايام الاعياد والمناسبات الحلوة.

وما يميز هذه الشخصية ايضا التعلق الشديد السابق بالأم، لذا فمن المحتمل ان تكون هذه الشخصية بها الكثير من سمات الاعتمادية والتعلق الشديد، فالقلق المصاحب لهذه الشخصية ايضا الوضوح التام لحالة الانفعال الاولي وهو طفل صغير ما زال في كنف الام، فهو بخوفه من فقدان الشئ، نابع اساسا من فقدان التواصل مع الام، لذا نقل هذا الاعتماد من الام الى الابن او البنت او الزوج، وظل الخوف هو الملازم في كل السلوك والتعامل واذا لم يحدث ذلك اختلق لنفسه الاسباب لكي يكون في دوامة الحزن والآلم.

ان حزننا نحن البشر هو حالة وجدانية يمر بها جميع الناس وفي مواقف لا حصر لها في حياتنا المعاصرة، الحضارية او في الريف او ممن يعيشون في الاهوار او الادغال، ولكن المهم هو كيف استطاع الفرد تحويل هذا الحزن او الآلم النفسي مهما كانت شدته من الخارج الى الداخل حتى احدث هبوط واضح في المعنويات او المواجهة او التصدي لمشكلات الحياة وازماتها وضغوطها.

هذا الحزن الشديد الذي توجه لدواخلنا احدث الكثير من الاعراض الجسدية مثل فقدان الشهية او رفض الطعام او القئ احيانا او الامساك بالتبادل مع فقدان التحكم احيانا في المخارج مع هبوط واضح في الحركة والنشاط والحيوية مما يؤدي حتما الى اضعاف مقاومة الجسد للمرض ويعرض صاحبه غير المريض للامراض العضوية او النفسية الجسمية. هذا الحزن الشديد لو تأملنا نتائجه النفسية نجد هناك وضوح كامل بفقدان الرغبة والتعامل مع الآخرين فضلا عن فقدان الاهتمام بالبيئة الاسرية والاجتماعية مع البكاء الكثير بدون اوقات محددة من اليوم.

يقول الدكتور محمد شعلان اننا نستطيع ان نتصور ان هناك جوعا شديداً الى الحب مع ميل شديد للعدوان يقابله التطرف المقابل وهو ميل شديد للاحباط وتحكم مبالغ فيه في العدوان، حتى اذا ما انفجر الموقف المهيأ توجه هذا العدوان نحو الذات، وفتكت النفس بنفسها وهو بذلك يفتح لنا الابواب لفهم مآسي ما يدور في انفسنا بسبب هذا الحزن في كل احوالنا في السواء او في المرض حتى ضاعت في دواخلنا متاهات السعادة والفرح وهي من صنع انفسنا.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com