صحة نفسية

 

العراقيون .. بين التعب والملل

 

د.اسعد الامارة - السويد
استاذ جامعي وباحث سيكولوجي

elemara_32@hotmail.com

 عانى الكثير من العراقيين في داخل العراق وخارجه من الظلم والاضطهاد عبر عقود من الزمن وربما لا نغالي لوقلنا عبر حقب من الزمن وربما نوبات تشبه نوبات الفصامي حينما تضرب مركز سيطرته على مجرى التفكير حتى تكاد ان تصيبه بشلل التفكير، فالعراقي اليوم وبعد هذه المعاناة الطويلة من الهستيريا في كل متطلبات الحياة البسيطة من الآمن الى الخدمات الى نوبات الاعتقالات وصل به الحال الى حالة من الاعياء والتعب وربما الانهاك النفسي قلما يتحمله حتى مريض السرطان بالآمه واوجاعه او من عاش ليلة قاسية مع آلم الضرس ، كلها تنتهي ولم تنتهي الآلام العراقي .

يعرف التعب بالمعنى السيكولوجي بأنه الاحاسيس والمشاعر المعقدة والصعوبة المتزايدة التي يخبرها الفرد بعد استمراره في العمل او التعايش مع القلق او فقدان الضمان الامني لفترة طويلة ، وان التعب يمكن ان يكون عقليا او عضليا او حسيا او عصبيا .

اما الملل فيعرفه عالم النفس الشهير ( انجلش وانجلش) بأنه حالة نفسية تنتج من اي نشاط ينقصه الدافع او الاستمرار في موقف لا يميل اليه الفرد وتتميز الحالة بضعف الاهتمام وكراهية استمرار النشاط او الموقف .

معنى هذا ان التعب حالة فسيولوجية نفسية تنشأ من الاستمرار لفترة طويلة مع جهد وعمل مهما كان الفرد يميل اليه ولديه دافع قوي لمزاولته .

اما الملل كما يقول (د.فرج طه) فهو حالة نفسية تنشا من مزوالة الفرد  لعمل لا يميل اليه او ليس لديه دافع قوي لمزوالته وبالتالي يحس الفرد بالملل من استمراره في مثل هذا العمل مهما كانت فترة الاستمرار قصيرة فكيف الحال اذا استمرت عقود مصحوبة بنزيف من الدم والتشرد والارهاق النفسي ، ويقول علماء النفس ان التعب يؤدي الى الملل المؤقت للعمل او الرغبة في الانصراف عنه كما ان الملل غالبا ما يؤدي الى سرعة الاحساس بالتعب من الاستمرار في العمل الذي يمله الفرد ومن هنا يعد الملل احد مظاهر التعب  .

ترى الدراسات النفسية ان للتعب آثار سيئة على كل من المواطن والاسرة ( الزوجة والابناء) والمجتمع والاخرين في مجتمع العمل او دائرة الصداقة حتى يبدو الفرد لا يتحمل نفسه بسبب كثرة الضغوط الحياتية الواقعة عليه فيلجأ الى ان يشعر باعراض كثيرة منها النسيان ، الشرود الذهني ، التوهان ، الاخطاء المتعمدة مع الاخرين او مع نفسه حتى ادت في معظم الاحيان الى القسوة  في التعامل مع الاخرين.

 التعب والملل وانعكاساته على الطفل :

ترى الدرسات النفسية المتخصصة ان الطفل ينحرف او يمرض عقليا بسبب قسوة تعامل والديه معه وهو انعكاس للواقع المعاش الذي يمر به البلد ، هذا السلوك لا يعرفه الطفل  و لم يألفه ولم يعرف  خشونة الحياة وقسوتها وازاء ذلك يقول (د. محمد شعلان) بحكم قسوة الظروف الاسرية على الطفل والظروف الخارجية على الاب وعلى الام وعلى المجتمع بأسره فإن الطفل لا يفهم ما يجري حوله ولكنه يستجيب بالانطواء والانعزال والراحة كما يعتقد ، وينجح بهذه الطريقة لفترة قصيرة الامد تنتهي بأن يحدث الانقلاب المضاد آجلا ويفرض الجانب المقهور وجوده في صورة الجنون او غير ذلك . وهذا من  نتاجات الحرب وفقدان الامن والحاجة الى الخدمات وغير تلك الكثير من الاعراض التي تداهم الطفل العراقي .

ان الادبيات النفسية ترى بديهيا ان الطفل المريض ما هو إلا المعبر الظاهري عن مرض اسرته وكثيرا ما يكون هو أكثر ابناء الاسرة ذكاء وحساسية ورغبة في التطور والنمو ، ومعاناته ليست الا دليلا على صدق رغبته هذه واحباطها ازاء تحجر اسرته وربما هي الاسرة بحاجة الى علاج والادهى في ظاهرة العراق بعد عقود الحروب والازمات والحصار والصدمات النفسية هو بحاجة الى علاج جمعي ليس للطفل فحسب وانما للاب والام والابناء.

هل الام بمنأى عن التعب والملل في العراق اليوم :  

عاشت الام العراقية وما زالت تئن من الرجل ( الاب ، الاخ ، الحبيب ، الزوج ، المجتمع ) واضاف على حملها حمل اخر هم الابناء ، فهي كتلة المآسي المتحركة ومعاناة القرون ، وهي الاضعف عبر التاريخ ، فيكفي ان اسقاطات الزوج عليها بسبب ما يتعرض له يكون من نصيبها ( الاسقاط) حيلة دفاعية لا شعورية تلجأ اليها النفس البشرية في حلها للصراع في الشخصية حول دافع نفسي معين بان تتخلص من هذا الدافع فترميه اي تسقطه على شخص خارجي او اي شئ خارجي ، والشخص الخارجي هنا في الاسرة العراقية هي الزوجة لانها الاضعف دائما عبر التاريخ في مثل تلك الحضارات .

يقول (مصطفى زيور ) ان الملل العميق الذي يتسلل في صمت في اعماق الذات إنما يكشف لنا العالم الذي يعيشه الفرد ، هذا الفرد هي المرأة العراقية في صمتها ومللها الدفين الذي يؤدي كما تؤكد الدراسات الطبية النفسية الى القلق ، والقلق الشديد يولد الاغتراب .

ومهما نظرت المرأة العراقية الى نفسها وحكيت تاريخها الذاتي فلا تجد ساعات السعادة ابداً لا في الماضي السحيق ولا البعيد ولا حتى القريب ، والحال هو سيان اليوم عندها لانه يزلزل كيانها فتستشعر العدم مع السمة الدائمة وهي الندم وهو نذير خطر لا يدركه الا معشر من عرف النفس الانسانية ، فهي تعيش ثنائية الحزنين ، الزوج والواقع العراقي المعاش وهي ثنائية وجدانية اذا صح ان نطلق عليها هذه الثنائية توضح لنا أن القلق بوصفه ضيفا ينزل عليها كل يوم من حيث لا تدري فتستقبله بقدر من المضض لانه نذير خطر لشئ قادم أكبر بكثير .

ومن جراء القلق الدائم من الزوج ومن المجتمع ومن اجل الابناء واستمرار المعيشة احياء بدون ان تفقد احد من اسرتها تفقد سيماء وجودها فيصبح الحاضر  بالنسبة لها سخرية مريرة لان جوهر وجودها القلق الذي يشتت كل اهتمامها ويصبح العالم عندئذ في عداد الموتى وتغدو الوجوه المألوفة حتى الحبيبة منها اشياء غريبة . اما المستقبل وما ينشأ عنه فهو رهاب ( فوبيا – خوف مرضي ) او هذيان أقل ما يمكن القول عنه ان يعيد الالتصاق بالواقع ولو كان مرضيا .

يتضح اذن ان العراقي فطن الى ان الطريق الصحيح هو التزام منهج الاستمرار بالخوف والرعب والرغبة في عيش يومه فقط حتى يكاد يمسي غريبا عن نفسه ، هذه الغربة تفقده الطمانينة في نفسه بين اسرته ومع اهله في وطنه حتى وان اكسبته المواطنة في بلده ولكنها  افقدته راحة البال ولكن هل يبرأ الاصحاء ممن لم يعايشوا تجربة العراق المريرة من التشبث بمبدأ النعيم بلا آلم ؟ لا اعتقد ذلك !! لان الكثير بلا تجربة العراق مرضى وهم في اوطانهم !!!

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com