صحة نفسية

 

ولمحنة أيتام  العراق احزان

 

د.اسعد الامارة - السويد
استاذ جامعي وباحث سيكولوجي

elemara_32@hotmail.com

تعرض لنا الادبيات النفسية المتخصصة بأن الطفل يمثل في الحوار الانساني جانب التطور في مقابل التكيف فهو بحكم تحركه المستمر في اتجاه النمو يمثل التغيير والابداع والخروج عن المألوف والسائد في مقابل استقرار الاب ومحافظته ، انه الممكن في مقابل الواقع الحالي المتاح مع المستقبل في مقابل الحاضر النابع من الماضي لا سيما ان الجديد يولد من رحم القديم ولكن يتخلق من خلاله ، فالطفل في جدليته وجود ولد من رحم القديم وهما  الام - الاب ويتخلق من خلال حنان الام والاب ليكون في المستقبل صورة التغيير لا من حيث خلاياه وتكوينه البيولوجي فحسب وانما من تشكل سلوكه الجديد – القديم ، فهو في الوضع الطبيعي في بدايته غير المتميزة وغير المحددة فكريا.  يستطيع ان يكون قزما ضئيلا لا في الطول او العرض او القوة او القدرات العضلية ، بل في التكوين النفسي وتتدخل البيئة في تغيير مجرى هذه الخطوط بان يكون قزما ضئيلا في سلوكه او عظيما كبيرا في تصرفاته الانسانية .

 وترى دراسات علم نفس اضطرابات الاطفال ان الطفولة بصفة عامة تتحدد بفترة زمنية ضئيلة اذا قورنت بعمر الانسان إلا ان وزنها يفوق كمها المحدود من حيث التأثير ، هذا من جانب وجانب آخر بين لنا التحليل النفسي بمكتشفاته الكبيرة اهمية الخبرات المبكرة في حياة الانسان بل ربما ذهب فرويد اعمق بقوله ان تكوين شخصية الانسان تتحدد في السنوات الخمس الاولى .

 ان ما استعرضناه في السطور السابقة هو الوضع الطبيعي للطفل العادي ولكن نعرف دائما ان موقف الاسرة من الطفل وهو اساسا موقف الابوين الذي يتراوح بين القبول التام والرفض التام وبين هذا وذاك درجات تؤثر في الصحة النفسية عند الطفل ، وما زال حديثنا عن وجود الابوين ، ولكن الاعظم والاكبر هو حين يفقد الطفل احد ابويه ( موت الاب او موت الام) او كلاهما وهي الكارثة حينها لا تصبح ازمة في المفهوم الملطف لعلم نفس الطفل واضطراباته ولا هي محنة بالمفهوم التقليدي وانما احزان دائما تنشأ مع نمو الطفل تنتج عنها عقد لا نهاية لها واحباطات مع صراع نفسي يهز كيان شخصيته تنتهي باضطرابات نفسية وعقلية لا حصر لها .

 ان اطفال العراق الذين فقدوا الاب او الام بفعل الاحداث التي مرت بالعراق عبر اربعة عقود من الزمن تركت آثاراها واضحة لدى اجيال من الشباب منها العنف بأعلى درجاته والقسوة في ادق تعاملها وتطرفها وضعف الوفاء للآخر في ابسط اساليب التعامل بفعل فقدان الاشباع النفسي والحنان في مراحل الطفولة ، واليوم وعبر هذه الازمات السياسية التي تمر بالعراق وما نتج عنها من تهدم متعمد للنسيج العراقي من الغرباء الذين دخلوا بأسم الدين المتطرف او السياسة المتشددة او الانتماءات الى جهات خارج العراق جعلت الطفل العراقي يفقد الآمان لانه استمد الخوف من اهله وتعلمه من نموذج امامه في البيت والشارع والمدرسة ان وجد لها سبيلا ، وازاء ذلك لم يتعلم المحبة ولا تقدير ذاته ولا الاحترام فلم يعد يبحث عن التفوق او النجاح او التسلية او الترفيه وانما لكي يستمر بالحياة مثل الكائنات الحية بدون قيم انسانية .

 ان ايتام العراق فقدوا احتياجات الاطفال النفسية ولو اردنا الاشارة الى هذه الاحتياجات لوجدناها ليست فطرية ولا غرائزية كما في الاحتياجات الجسمية ولكنها تظهر فقط اثناء تعامل الطفل مع افراد اسرته وكذلك تعامله مع بيئته ومجتمعه وليس هذا فحسب وانما احتياجات الطفل النفسية تتسم في انها اقل سيطرة والحاح من الجسمية ولكنها اعمق منها في الفعل والتأثير ومنها الآمن ، المحبة ، الاحترام .. الخ .

فقد ايتام العراق احد الابوين من الناحية الواقعية  ولكن صاحب ذلك الفقر والعوز والحاجة المادية مما زاد الهموم والاحزان  احزانا اخرى حينما تلقي بظلالها الكئيبة على كل ابعاد الوجود النفسي والاجتماعي والاسري والمعاشي حيث يتجلى  في العجز عن ايفاء متطلبات الطفل – اليتيم توفير لقمة العيش ومعها الحنان المفقود ، فلا اللقمة ولا الحنان ومن ثم تزايدت الحاجة الى الآمن في البلد بأسره  حتى بات اليتيم بعد ان فقد ابويه او احدهما بلا مظلة مثل الاقرباء او من يكون بديلا عنهم . ادى بالطفل العراقي اليتيم الى انخفاض وعجز ملحوظ بالجانب الانساني الذي يتعلمه الفرد – الكائن البشري من بيئته والذي سماها علماء الاجتماع وعلماء النفس الاجتماعي بعمليات التطبيع الانساني اي جعل السلوك الانساني انسانيا ، بدلا من ان يذهب الى السلوك الحيواني – سلوك الافتراس والعنف والمتمثل لدى البشر الذين لم يدجنوا بالتحضر ولم يتعرضوا لعمليات التطبيع لاجتماعي الى السلوك العدواني وهذا ما عرفناه عبر العقود الماضية في النظام الدكتاتوري السابق من تشجيع القاتل بمنحه نوط شجاعة  وكلما قتل اكثر منح امتيازات اكبر واوسع ونياشين واوسمة .

ان اليتيم العراقي الذي تتشكل شخصيته تحت ظروف الحصار ومن ثم ظروف العنف والقتل الطائفي وسمات السلوك العدواني السائدة في عموم المجتمع انما تبنى بنيته العقلية والخلقية الاساسية بتجربة حزينة يغيب فيها البعد الانساني وتظهر فيها سمات اقل ما يمكن وصفها باضطرابات رئيسة مثل الذهان (اضطرابات عقلية) او العصاب ( اضطرابات نفسية ) او اضطرابات شخصية وهذه كلها مصحوبة باعراض تبلد ضد كل ماهو انساني – عاطفي لا يعرف صداه الا من خرج من دوامة العنف الى بيئة اخرى تختلف عن  البيئة التي يعيشها في العراق ، فتبلد المشاعر تجاه الاخر والانطواء والانعزال والخوف من الآخر والشك فيه هي كلها سمات تنتاب شخصية الطفل العراقي اليتيم الذي نشأ في ظروف العراق القاهرة.

ويقول علماء النفس ان العوامل المرسبة الداخلية في الذات تعد البوتقة التي يلتقي فيها الداخل مع الخارج وكل ما يحدث في الخارج  له انعكاس في الداخل حتى يبدو أكثر وضوحا في تعامل الفرد وما يصدر عن ذاته .

اعظم ما تظهر لنا الدراسات النفسية المتخصصة ان الطفل اليتيم يتعرض لاختلال في التوازن بالوضع الطبيعي ينشأ لديه من لحظة احساسه بفقدان الآمن الذي يستمده من امه او ابيه وهذا الاختلال هو اساسا اختلال في قدرة الذات على التوفيق بين الداخل والخارج ، وبين العناصر المتصارعة في  ذاته الطرية الغضة ، هذا الاختلال يأتي نتيجة لعوامل خارجة عنه لا تتعدى قدراته على التحكم في نفسه وخصوصا اذا طالت فترة الحرمان سواء كان حرمانا من الاشباعات المهمة  مثل الابوة اوالامومة اوالآمان والاشباعات الاخرى المادية مثل الماكل والملبس والمسكن وهي حاجات اساسية . وخلاصة القول ان ايتام العراق يعيشون في عالم شديد التعقيد سريع التغيير كثير الاحزان والالام يقتضي  مبادرة تحل محل السلبية في الاهمال لكي تقلل الالام وتجد علاجات نفسية – انسانية سريعة.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com