لقاءات

محمد الدوهو: النقد كسلطة ثقافية

 

حاوره عبد الله المتقي

يأخذنا هذا الحوار إلى تأمل رزين في المشهد الثقافي المغربي بكل أفاقه منذ الاستقلال حيث انخرط المثقف في صيرورة المطالب الكبرى التي تطلبتها المرحلة أنذاك إلى زمننا هذا حيث دينامية تراكمية تفرض طرح السؤال و مساءلة هذا التراكم.

لنبدأ هذا الحوار بالمتغيرات الحاصلة في حياتنا الثقافية نكيف تراها وتتمثلها؟

يحتمل سؤال الشأن الثقافي في المغرب مدخلين:مدخل سوسيو –ثقافي ومدخل يرتكز على تاريخ الأفكار.في الحالة الأولى يتحتم على الباحث أن يلج باب التاريخ لفهم صيرورة المتغير الثقافي في المغرب،ها هنا نحن أمام ما يمكن تسميته مع الدكتور علي أومليل بتاريخ السلطة الثقافية للمثقف المغربي في صيرورة المجتمع المغربي،أي أثر المثقف في صيرورة مجتمعه وتأثره به،هذا سؤال يحيلنا إلى العلاقة بين السلطة الثقافية والسلطة السياسية في تاريخ المغرب الحديث،لكن لا بأس هنا من القول أن مثقف ما قبل الاستقلال يختلف عن مثقف ما بعد الاستقلال،مثقف ما قبل الاستقلال كان نخبويا على المستوى الاجتماعي وسليل الأسرة الأرستقراطية المغربية،هو مثقف كان يفكر في دولة ما بعد الاستقلال لكن تفكيره كان ينصب عن صيغ تحقيق الاستقلال في أحضان دولة وطنية هي ،وكما يقول عبد الله العروي، نتاج عهد التنظيمات وإعادة تحديث الدولة بمؤسسات ادراية حديثة تتجاوز الدولة التقليدية هنا أحيل إلى أطروحة عبدا لله العروي في دراسته للجذور الثقافية للحركة الوطنية والدراسة المتيمزة لبيير فارموران والتي تحمل عنوان"المدرسة والنخبة والسلطة في المغرب وتونس في القرن العشرين،صدر سنة 2002).ثم جاء الاستقلال، وخاصة مع مجيء ستينيات القرن العشرين، وبدء بروز ما يمكن تسميته بالمثقف الوطني والعضوي،وبطبيعة الحال لا يمكن عزل استقلال المغرب عن استقلالات الدول المستعمرة،وكما هو فقد شعر المثقف الوطني والعضوي بان مكتسبات الاستقلال تم الإجهاز عليها،لان النخب التي شكلت الاستقلال وبمجرد أن تحكمت في زمام الأمور والشأن الوطني اتجهت نحو إنتاج وإعادة إنتاج(بالمفهوم الذي يعطيه بيير بورديو لمفهوم إعادة الإنتاج)، تمركزها السلطوي ورأسمالها الرمزي والاقتصادي.،وما حدث أيضا من انشقاق ايديولوجي في جسم الحركة الوطنية اعني هنا حزب الاستقلال،جعل المثقف الوطني يجهر بضرورة ترسيخ صوت سلطته الثقافية والنتيجة وكما هو معروف ظهر ما يمكن تسميته بسادية الدوليةLe sadisme de letat ،ثم جاءت مرحلة ما بعد التسعينيات أو ما سمي بمرحلة الانتقال الديمقراطي مع حكومة التناوب،واتجهت الدولة إلى تكريس مبدأ المصالحة بين المثقف والسلطة،ودعوته ،للمساهمة في ترسيخ ميثاق ديمقراطي بين الدولة والمجتمع وتجاوز أزمة الثقة بينهما، ويتحول وهذا هو الأهم إلى وسيط للإقلاع التاريخي نحو المستقبل.ولعل ما يكتب الآن وما هو مثار الآن من نقاشات يدل على ما نقول.السؤال المطروح الآن هو إلى أي حد ستذهب الدولة بعيدا في تكريس دور المثقف و فسح المجال له لتترسيخ سلطته الثقافية في إنتاج الاختلاف هذا سؤال مطروح وسيطرح مستقبلا على سوسيولوجيا الثقافة في المغرب؟.

أما إذا أردت أن تقرا المتغير الثقافي من زاوية تاريخ الأفكار،فهنا لابد من الإشارة إلى أن قراءة المتغير الثقافي الآن لابد من أن يكرس مبدأ التجاوز والاستمرار،ولقد سبق لي في إحدى المناسبات أن عبرت على أن الحصيلة الثقافية في المغرب الآن أفرزت أطروحات وأفكار لمثقفين فلا يمكن لأي باحث أو مثقف أن ينطلق في مسائلته للشأن الثقافي الآن دون التفكير فيما كتبه عبدالله العروي ومحمد عابد الجابري وعبدالكبير الخطيبي وعلي اومليل وعبد الفتاح كيليطو وغيرهم ،بمعنى أن المسالة هنا ترتبط بالتفكير وإعادة التفكير فيما كتب حتى يتم الاستمرار والا سقطنا في شرط القطيعة بين الأجيال،وهذه مسألة بنيوية إذ لا يمكن التفكير في المغرب دون التفكير في المكتسبات التي تحققت رغم ما يقال عن مرحلة الماضي،وكذلك الشأن الثقافي،المسألة هنا ترتبط بمحاورة مكتسبات الذات الثقافية شريطة الانفتاح على المنجز الثقافي الكوني.

أمام هذا ما معنى أن تكون ناقدا؟ وما الذي تسعى إلى تأكيده؟

بناء على ما سلف ذكره،فالنقد لابد أن يتحول إلى سلطة ثقافية،وأنا عندما أتكلم عن السلطة الثقافية للنقد،عليه أن يساهم في إنتاج معرفة تساهم في تأثيث حركية المجتمع ويدخل في نطاق النقد الثقافي ليكشف عن مكبوت التاريخ الذي لا تسمح السلطة السياسية في الحديث عنه،لكن المسالة هنا لابد أن تستند إلى أطروحة توجه الناقد،وبطبيعة الحال فالمنطلق النظري هو الذي يحدد تصور الناقد في تحليله وحواره مع النصوص.مع أسماء كعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وعبد الفتاح كيليطو ومحمد مفتاح وغيرهم من النقاد المغاربة المتميزين اتجه النقد إلى الحفر والتفكيك لمساءلة النصوص في علاقتها بالأنساق الثقافية التي تنتجها،لكن ما يهم في هذا المضمار هو كيفية الاستفادة مما كتبه هؤلاء ويبدو لي أن هذه المسالة مهمة ،خاصة وأن مسألة الكتابة والخطاب لم يتم تعميق الحوار فيها، وفي رأيي الشخصي فان كتاب الايديولجية العربية المعاصرة لعبدالله العروي وبقية كتاباته ثم أيضا كتاب المقامات لعبد الفتاح كيليطو وكتابه المتميز مفهوم المؤلف في الثقافة العربية وبقية كتاباته،ثم العمل المهم الذي أنجزه محمد عابد الجابري في بنية العقل العربي، وأيضا أبحاث سعيد بنكراد السيميائية ،جاء لتفتح الباب على مصراعيه أمام براديكم نقديجديد،والباراديكم هنا بالمعنى الذي يعطيه إياه توماس كوهن،ويتعلق الأمر هنا بمسالة العلاقة القائمة بين الخطاب ومنتجه والسياق الثقافي والتاريخي الذي ينكتب داخلة الكاتب،فمن يكتب يكون محكوما بنسق ثقافي يتدخل في صوغ الخطاب الذي ينتجه،عبد الله العروي كشف عن هذا في الإيديولوجية العربية المعاصرة،عندما ابرز تجليات مثقف الإيديولوجية العربية المعاصرة في خطابه في الزمان والمكان،هذه مسألة مهمة من الناحية المنهجية ويمكن أن تنقل إلى ميدان النقد،إذ إن الحلقة المفقودة في تاريخ النقد العربي هو مفهوم المؤلف أو ما يسمى الآن بالذات الكاتبة، وطرائق صوغ خطابها،وبطبيعة الحال لامناص هنا من التركيز على سيميائيات الخطاب ونظرية التلفظ،خاصة وأن مقال صوغ الخطابDiscursivisation كما طرحه معجم أ.ج.كريماص وج.كورتيس سنة 1979 يمنحنا مدخلا مهما في تفسير هذه الإشكالية.وإبراز دور مفهوم الذات الكاتب،أو الكاتب الفرد أو الذات المتلفظة،في تأويل الخطاب الأدبي وغيره من الخطابات.أن الحديث عن مفهوم الذات الكاتبة إشارة إلى علاقة الخطاب والاختلاف في تاريخ الثقافة العربية و كيف ظلت العلاقة القائمة بين الكاتب وسياقه الثقافي علاقة يطبعها كما يقول كيليطو يطبعها الارتياب.وعلى العموم هذه مسألة حاولت إثارتها في كتبي "حفريات في الرواية العربية:الكتابة والمجال" صدر سنة 2005 ثم كتابي "الكتابة ونهج الاختلاف في الرواية المغربية"(2007) ثم "جدل الاستمرار والتجاوز قراءات في القصة القصيرة المغربية الجديدة"(2008).لكن سأحاول إثارة هذه المسالة في كتاب أشتعل عليه الآن وسيصدر قريبا،وهو عبارة عن دراسات نشرت في عدة مجلات عربية ووطنية.

ما ميزات النص الإبداعي الذي يفتح شهيتك؟

كتب الروائي التشيكي المعروف ميلان كونديرا،كتابا عنونه ب"فن الرواية"،ولعل أهم ملاحظة أثارها في حواره حول فن الرواية، تلك الملاحظة الذكية التي يعلن فيها ان موضوع الرواية في كل الأزمنة هو البحث في الأنا- أنا الشخوص،وما يشكل هذه الشخوص ويتدخل في تحديد هويتها السكولوجية والتاريخية العميقة،هذه ملاحظة مهمة من الناحية المنهجية ومقروئية النص الحكائي سواء كان رواية او قصة أو مسرحا أو فيلما سينيمائيا.فالنص الجيد هو النص الذي يقذف بالقارئ في العوالم العميقة للشخوص وعلائقها وفي ارتباطها بالزمان والمكان، انظر مثلا ماذا يفعل دوستيوفسكي بشخوصه، أن القارئ ،ولنفترض انه قارئ ينتمي إلى القرن الواحد والعشرين، يسافر عبر القراءة إلى زمن الشخوص فيحس وكأنه يعيش زمن الشخوص ويتورط هو الآخر،كمروي له، في البحث عن الأسئلة التي يطرحها دويستويفسكي سواء في رواية"الجريمة أو العقاب" أو "الإخوة كارامازوف" وغيرها من رواياته، وعلى الرغم من أن التاريخ حكم على الإفلاس التاريخي لشخوصه بمجيء ثورة اكتوبر1917،إلا أن روعة دويسيوفسكي وصنعة الكتابة عنده مازالت تأسر ،وستاسر،كل الاجيال التي تقرأ نصوصه ،وليس دوستويوفسكي سوى نموذج من النماذج الكونية ،فهناك سرفنتاس وليون تولستوي ،كافكا وتوماس مان،وهرمان بروخ،واليخو كارنتر،وميخال أنخيل استورياس، وعبد الرحمان منيف ومحمد شكري،وصنع الله إبراهيم وجبرا إبراهيم جبرا ومحمد زفراف...

بالمناسبة هل يمكن الحديث عن استمرارية وتجاوز في النقد المغربي؟

إذا أردت أن تتكلم عن استمرارية وتجاوز في النقد المغربي ،فهذه مسألة مطروحة على التاريخ،كنا ،وأنا من الجيل الذي ولج الجامعة في ثمانينيات القرن العشرين، وكانت البنيوية هي المنهج والموضة الثقافية السائدة وبطبيعة راكمت الجامعة المغربية سيلا من الابحات والكتابات التي قدست إلى حد ما النص ومقولة النص ولاشيء إلا النص،لكن مع مرور الأيام ،اكتشفنا أن مقولة موت الإنسان لا تعنينا،وان إنتاج الحداثة في النقد المغربي يصطدم بما يمكن تسميته مع الروائي السوري الراحل هاني الراهب،سلطة المثاقفة،إذ بمستطاع الناقد الغربي أن يبحث في النص الذي يحلله ويمارس عليه شتى أشكال التفكيك فهذا النص والنقد الذي يحلله ينتميان إلى شفرات ثقافية غربية معترف بها، وبالتالي فان استنساخ التجربة النقدية في ميدان النقد عملية لا يمكن إلا أن تؤدي إلى فقدان خصوصية النص والواقع،إن هذا الاستنساخ أدى إلى إلغاء ثلاث محاور أساسية في النقد، المؤلف (الذات الكاتبة) والنص ثم السياق الثقافي.المسألة هنا مسألة حس تاريخي،لان مسألة الكتابة في المغرب وعموم الدول التي تعرف تأخرا ثقافيا، ترتبط بالدعوة إلى ميلاد مفهوم المؤلف الذي يكتب ويتأثر ويؤثر في المجتمع الذي يعيش فيه.إنها في النهاية ،مسالة ذات تكتب ويتجلى نسقها فيما تكتبه وتصوغه،الصديق الناقد حسن المودن في كتاباته النقدية يحاول أن يجيب على السؤال من زاوية سيكيلوجية تبحث عن هذه الجدلية العميقة بين الذات الكاتبة ولا شعور النص كما يطرحها جان بلامين نوييل خاصة كتابه"لاشعور النص".أتمنى أن يلتحق بالركب نقاد آخرون من زوايا منهجية متعددة انتربولوجية، سوسيو-نفسية،..

أي واقع وأي مستقبل للرواية المغربية؟

هناك تراكم مهم حققته الرواية المغربية،لكن عندي ملاحظة وتتلخص في كون الرواية المغربية تعيش أزمة الممكن،أهي أزمة بطولة أم أزمة ممكن تاريخي؟.انظر إلى تاريخ الرواية الغربية،تاريخ هذه الرواية تاريخ قطائع في صيرورة المتخيل الغربي،جاء رواية الدون كيشوط لتدشن عهدا جديدا في تاريخ الرواية الغربية،ثم جاء رواية "مدام بوفاري" لفلوبير لتحدث ،أزمة في وعي الكتابة الغربية ولتطرح بديلا آخر في المتخيل الروائي الغربي نتيجة للازمة التي عرفها الوعي البورجوازي،كما عبر عن ذلك رولان بارت في كتابه الشهير"درجة الصفر في الكتابة"، ثم تأتي رواية"عوليس" لجيمس جويس لتحدث ثورة كوبيرنيكية في تاريخ الرواية...المسألة هنا ترتبط بممكن يرتبط بهذا التوازي القائم في تاريخ الأدب بين الكتابة وصيرورة المرجع-الواقع- الذي تكتبه الرواية.كلما احتدمت الأزمة تاريخيا وسياسيا واقتصاديا وأخلاقيا إلا وتدخلت الإبداع الأدبي في المساهمة في البحث عن الاواليات العميقة لهذه الأزمة للبحث عن ممكن، والممكن هنا يرتبط بالوجود، والوجود، كما يرى ميلان كونديرا كل ما بمستطاع الإنسان أن يكونه ويصيره.

ويبدو أن محمد شكري ومحمد زفزاف و عبدالله العروي والميلودي شغموم وإدريس الشرايبي ومحمد برادة وأحمد المديني يكتبون ويفكرون من داخل هذا الاشكال الجمالي والتاريخي.إنهم يكتبون عن صيرورة تاريخية يتعطل نمو الممكن فيها،ولا تسمح،لأسباب متعددة، بحرية الفرد في امتلاك مصيره الفردي والتاريخي،وبالتالي يخضع لتحولات تجعله يتحول من عامل جامد Actant patient إلى عامل فاعل والى مقولة حقوقية وفلسفية ومدنية،انه بطل يظل في حالة الامكان يتحدى ولكنه لا يستطيع أن يتحقق،بطبيعة الحال هذا إشكال تاريخي لا يخص الرواية المغربية وحدها ولكنه يرتبط بالرواية العربية.فمنذ رواية زينب لمحمد حسين هيكل إلى يومنا هذا يظل الاشكال هو الكتابة عن رحلة البطل العربي وبحثه في العوائق التي لا تسمح بتحوله وانتقاله من حالة اللا-بطولة إلى حالة البطولة في الزمان والمكان،ومصير الرواية المغربية والعربية على حد سواء هو في تعميق البحث عن الأسباب التي تقف سدا منيعا في انتقال الذات من حالة الامكان إلى حالة التحقق،وأعتقد أن محمد شكري وعبد الرحمان منيف و الطيب صالح خير من يمثل ما أريد أن أعبر عنه في هذا المقام.

بودي أن أتبين رؤيتك النقدية لما تحقق في حديقة القصة المغربية؟

آتي إلى سؤالك حول القصة القصيرة المغربية هل هي ديوان المغاربة؟.للسؤال خلفية تاريخية وثقافية،كان العروي كما تعلم هو الذي هذه الإشكالية في كتابه الايديولجية العربية المعاصرة.ولأن الرواية هي ملحمة البرجوازية و تعبر عن مجتمع يؤمن بالكلية وصراع الطبقات ومن تم جاء جورج لوكاتش ليكشف أن الرواية هي قصة بطل إشكالي يبحث عن قيم أصيلة في مجتمع زائف،وبالتالي فالقصة،حسب العروي، هي الجنس الأدبي الأنسب لكي يعبر العرب عن ذاتهم.الآن وبعد التراكمات التي حققتها الرواية المابعد الكولونيالية إن نحن استعرنا لغة ادوارد سعيد في كتابه"الثقافة والإمبريالية"،خاصة رواية أمريكا اللاتينية و والرواية الإفريقية والرواية العربية خاصة بعد هزيمة 1967، يمكن القول أن رؤية العروي لا بد أن يعاد فيها النظر،صحيح أن للمسألة،عند عبدالله العروي، جذورها التاريخية في تكوين البرجوازية العربية و أيضا في طبيعة بنية الدولة العربية والتي رغم المحسنات التي أدخلها عهد التنظيمات على بنيتها الادراية والمؤسساتية،مازالت دولة سلطانية تكشف عن هذا التباعد العميق بين الفرد والدولة .المسالة لا تتعلق بأولوية جنس أدبي معين على جنس أدبي آخر،وإنما الأمر هنا يتعلق بإشكالية التعبير ،ذلك أن الرواية و القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا والشعر والمسرح ..هي أنماط تعبيرية وفنية تساهم كلها في تأثيث مشهد الكتابة في المغرب، والذي يسعى لالتقاط "التابث" و"المتحول" في صيرورة الهوية الذاتية والوطنية.ثم أن المسألة هنا ترتبط بسوسيولوجيا تلقي هذه الأجناس وما زلنا نحن في المغرب نفتقر إلى أبحاث ميدانية علمية لبرما ستجيب عن تلقي الكتابة الأدبية في المغرب والأجناس الأدبية.لكني دعني في الإطار أقول لك إن فعل التلقي في المغرب فعل نخبوي، إذ كيف يمكن لي أن أتكلم عن أولوية القصة أو الرواية في المغرب دون إحصائية دقيقة ومعقولة حول سؤال تلقي الكتابة الأدبية في المغرب.المسألة هنا لها ارتباط بديمقراطية الثقافة ودور الإعلام في المساهمة في التعريف بالكتابة الأدبية بالمغرب، انظر مثلا للبرامج التي تخصص للثقافة في المغرب، وهذا يعني آن مسألة تقويم تلقي جنس أدبي ما، هي مسألة ترتبط بالإرادة الثقافية المشتركة.

ما الذي يلوح لك وأنت تتأمل هذا الفيض من القصة القصيرة جدا؟

ظاهرة نصية وثقافية جديدة بدأت تتخلل المشهد القصصي المغربي وتتمثل في بروز جنس القصة القصيرة جدا، ولعل أهم ما يطبع هذا الجنس الأدبي هو التكثيف، إذ تتحول القصة إلى قصة –ومضة تعتمد مبدأ خير الكلام ماقل ودل، وتتوسل بما يمكن تسميته مبدأ الحدف الحكائي Ellipse diegetique بحكم أنها قصة تدعو قارئها إلى المساهمة في إعادة تشكيل النص وملأ الفراغات الحكائية التي يتركها الراوي في القصة.بطبيعة الحال هذا الجنس الأدبي يتميز بكونيته ولقد كتب فيه تولتستوي وتشيكوف و بورخيس اريكي أندرسون امبرت من الأرجنتين والين بلين من بلغاريا...

السؤال المطروح الآن لماذا أخذت القصة القصيرة جدا تتغلغل بامتياز في المتخيل الأدبي المغربي؟.هل للمسألة علاقة بالتلقي؟أم أن للمسألة علاقة بالتجريب؟ أم أنها مسألة تعبير ترتبط بجيل من الكتاب له حساسيته الجمالية والثقافية؟ .وعلى العموم وكما سبق لي أن أبرزت ذلك في كتابي"جدل الاستمرار والتجاوز:قراءات في القصة القصيرة الجديدة بالمغرب"، فما طرح على مستوى النشأة مع الرواية وغيرها من الأجناس الأدبية، ما إن كان هذا الجنس الأدبي جنس وافد من الغرب أم له امتدادات في الذاكرة الأدبية العربية، طرح أيضا مع القصة القصيرة جدا.

أعود إلى التجارب القصصية القصيرة جدا بالمغرب، هناك تجارب جد متميزة، أذكر على سبيل المثال تجربة كل من سعيد منتسب ومصطفى لغتيري و زهرة رميج ومحمد تنفو.إنها تجارب تستحق كل التنويه،وبما أن المقام لا يتسع هنا لإبراز خصوصية كل تجربة على حدة، فان ما يمكن ملاحظته أنها ، تجارب تغوص في المتأصل الذاتي والموضوعي لهؤلاء الكتاب ،والمقصود بالمتأصل الذاتي والموضوعي،أن تجارب هؤلاء تمتح موضوعاتها من مما هو ذاتي وما هو موضوعي له ارتباط بالواقع. إنها تجارب تحكي لقارئها مواقف إنسانية يمتزج فيها الحكي بالسخرية والنقد، حيث يلمع وميض القصة ليكشف عن مواقف يكون القارئ مدعوا لتأملها و يتحول إلى عامل مساعدActant adjuvant للراوي في تأويل المواقف التي يطرحها، أنظر مثلا قصة "الموعد" في مجموعة" جزيرة زرقاء"لسعيد منتسب، القارئ مدعو لإعادة تشكيل الزمن الذي ينزلق بسرعة على ذاكرة القارئ، حيث تشكل لحظة اللقاء بحبيبة الماضي لحظة لسيلان الزمن و تدفقه وما أن يوقف الراوي تذكره، حتى يبدأ في تدفقه وتمططه في زمن القراءة، والشيء نفسه في قصة"كيف تسلل وحيد القرن"لمحمد تنفو، حيث يمتزج الواقع بالخيال.ينسحب الراوي ليترك قارئه أمام موقف لا يملك القارئ سوى أن يقف متفرجا وساخرا من موقف المتفرجين الذين يجرون وراء الممثلة التي أطلقت سيقانها للريح خوفا مما لا تحمد عقباه من جمهور مكبوت جنسيا.بالإضافة إلى ما سلف ذكره يلاحظ أن هؤلاء الكتاب يكتبون ولهم معجمهم القصصي، إن أهمية المعجم ضرورية، فلا يمكن للأدبية أن تتحقق دون معجم، مصطفى لغتيري في"تسونامي" يكتب انطلاقا من معجم يعمق شعرية التكثيف" في قصصه.انه معجم متنوع يفتح شهية التأويل عند هذا الكاتب.وعلى العموم وكما هو واضح، على سبيل المثال لا الحصر، من خلال هذه النماذج، فالقصة القصيرة جدا أخذت تترسخ كجنس أدبي في المخيال الأدبي المغربي.

ما هي مشاريعك المقبلة ؟

بالنسبة للمستقبل، هناك أعمال أشتغل عليها، وهي في طور الإنجاز، أتمنى أن يسعفني الحظ في إخراجها للوجود،منها كتاب حول جدل المثاقفة بين الرواية العربية والرواية العالمية،وكتاب حول خطاب الكتابة في النقد الثقافي العربي،أتمنى أن يسعفنا الحظ في نشرها.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com