لقاءات

حوار هام مع الروائي والكاتب العراقي "عبدالرحمن مجيد الربيعي"

 

اجرى الحوار – عبدالرزاق الربيعي/ مسقط

* صراعاتنا وجه من وجوه الفساد الأدبي

*مدونتنا الروائية ما زالت فتية ولم تصل إلى شيخوختها بعد

*عندما أكتب لا أضع أي محذور أمامي

* أنا من الكتاب الخارجين على التبويب تحت عناوين معينة والمنتمين إلى أنفسهم وإلى همومهم.

* هناك دائما ما هو صعب وعصي في شخصي، وهذا لم يعرفه إلا أولئك الذين عايشوني عن قرب

* أحرقت مذكراتي التي فاقت الألف صفحة عام 1987 بعد أن اكتشفت أن هناك من قرأها دون علم مني

رغم أن الكاتب العراقي عبدالرحمن مجيد الربيعي إعتاد أن يثير الزوابع والمعارك الأدبية على صفحات الصحف الا أنه يتمتع بدفء إنساني نادر , وحميمية جعلت حتى خصومه يحبونه ويحتفظون بعلاقة ودية معه , وهو يرى أن هذه الخلافات هي ثقافية بحتة ولا يمكن لخلافات كهذه أن تفسد الود بينه وبين الآخرين , والربيعي الذي ينتمي لجيل الستينيات القصصي في العراق يعد من المجددين في فن القصة القصيرة العراقية, وهو أكثر كاتب عراقي تواجه أعماله إقبالا من قبل القراء وتعاد طباعتها , حيث طبع من روايته "الوشم " ,على سبيل المثال, أكثر من ثمان طبعات إضافة الى رواياته ومجاميعه القصصية الأخرى العديدة.

وهو جريء في طروحاته خصوصا في روايته"خطوط الطول ..خطوط العرض"التي صودرت من الأسواق في بعض العواصم العربية وكتاب مذكراته"أية حياة هذي؟" و"وجوه مرت" الذي وصفته الكاتبة غادة السمان بقولها إنه كتاب "خفيف الظل ينتمي لأدب السخرية المتعاطفة وقد نجح الربيعي في إبراز عنصر الطرافة البشرية (الدونكيشوتية) وكتب المآسي دونما (دراما) وببعض السخرية ولكن غير المتعالية وبمهارة أدبية حيث يتحول مجنون الأبجدية الموهوب أو المزعوم الى لحظة فنية راقية ومخلوق كله عيوب مثلنا ,ولكن الربيعي شرس حين يتعلق الأمر بتعرية بعض حقائق حياتنا الأدبية "

* في سيرتك الموسومة " أية حياة هي؟ شحنة عالية من الجرأة. هل أن فضاء الحرية الذي وجدته في المغرب العربي الأكثر قربا" لأوروبا من الشرق العربي هو الذي منحك هذه الجرأة؟ أم أنك تريد أن تتحرر من الماضي قبل أن يفلت من ذاكرتك؟

- ربما كان ما أوردته في سؤالك صحيحا، إذ أنك لو قرأت ما ينشر في تونس والمغرب والجزائر من نصوص روائية وقصصية تتأكد بأن ما كتب فيها من المتعذر جدا أن ينشر في العراق مثلا إذ كان السائد أنك لو أردت طباعة عمل أولى عليك أن تحمل على موافقة الرقابة أولا، أما في المغرب العربي فلا شيء من هذا تستطيع أن تقدم كتابك للناشر. وإذا كان هناك من شكل يثيره الكتاب الكتاب فقد يقاضي. ولكن هذه حالات نادرة، وليس أمامي مثال: أستطيع أن أسوقه. في العراق عانينا طويلا من الرقابة، كما عانى جيلكم التالي لنا، كانت هناك هيئة كاملة للرقابة. تقرأ ما تكتبه كلمة كلمة، وأحيانا تذهب المبالغة لقراءة النوايا. وقد أدركت هذا مبكرا. ومنذ كتابي الأول الذي أصدرت طبعته الأولى في العراق عامدا وهو مجموعتي " السيف والفنية" وذلك في عام 1996. بعد هذا الكتاب جعلت كتبي تهاجر راضية إلى لبنان الذي اتسع صدره لكل التجارب الكتابية، منهما كنت و أي موقف انطلقت هناك من ينشر لك. ومع هذا فقد كنت: نشر بعض كتبي في العراق مع أن فكرة اصدار طبعات أخرى منها خارج العراق كانت واردة. حذ روايتي "........الأسوار" مثلا فبعد طبعة بغداد: أصدرتها في طبعات أخرى بيروت وتونس (وهذا قبل أن أتحول إليها) ومع الرواية نشرت، الطبعة الأولى من مجموعتي "الخيول" ف تونس كذلك عام 1976. كما أن روايتي "الوشم" التي صدرت في سبع طبعات ليس بينها طبعة عراقية واحدة وقد تمنيت هذا، وكذلك الأمر مع روايتي "خطوط الطول.. العرض" التي أترقب صدور طبعتها المغربية لها وهي الرابعة بعد طبعات بيروت وتونس ودمشق.

* هل تشغلك قضية نشر الكتاب؟

- أنني لا أفكر كيف أنشر كتابا أنجزته، بل المهم أن أفكر كيف أكتبه، وعندما أكتب لا أضع أي محذور أو مخطور أمامي، بل أكتب ما أريده وبالشكل الذي أريده، لا تملق " لجهة ولا خضوعا لابتزاز ما. وعندما يصبح الكتاب منجزا كاملا وفق رؤيتي أفكر في طباعته ولأي دار أقدمه لينشر بالشكل الذي كتبته فيه. خذ مثال سيرتي التي ذكرتها في سؤالك "أية حياة هي ؟ " التي كتبتها كاملة بتونس حيث أقيم منذ عشرين عام، بعد أن قرأت الخطوط كان أول من تبادر إلى ذهني صديقي وأستاذي د. سهيل إدريس راعي بواكيرنا المخلص فأرسلتها له ليقرأها فقط خاصة وأنه قدم الجزء الأول من سيرته في كتاب على قدر كبير من الجرأة. توقعت أن تكون قراءته لكتابي قراءة منصفة، ولم يضل الوقت عندما وصلتني كلمة منه على الفاكس تمتدح هذه السيرة وهي الكلمة نفسها التي ظهرت على خلاف الكتاب الأخير مطبوعا".

وهنا أقول لعل خروجي المبكر من العراق، بنصوصي أولا ومن ثم بجسدي قد جعلني أتشبه بأولئك الكتاب الخارجين على التبويب تحت عناوين معينة والمنتمين إلى أنفسهم وإلى همومهم.

إنني يا عبد الرزاق وحتى اللحظة هذه ما زالت مسكونا بذلك الماضي الذي يجرني إلى وجوه ومدن وأسواق كانت بكل ما فيها من ألم وخوف ونكوص أثرى منهل أعود إليه لأغترف منه فلا ينضب. ورغم كثرة كتاباتي عن (الناصرية) مدينتي الأم فإنها تجدد في ذاكرتي وكأنها الدنيا كلها فأكتب عنها.

* حذف من روايتك "الوكر" بطبعتها الأولى الكثير وقلت لي إن "التباسات الواقع وتدخلاته أمور لن يستطيع الكاتب العربي أن يتخطاها ويتجاوزها أبدا " هل ضغطت عليك هذه الالتباسات كثيرا؟

- جدا، يومها كنت أدير المركز الثقافي العراقي بيروت وأستعد للتحول إلى تونس، كان هذا عام 1980، وكان بقائي خارج العراق مهما " لي وأخشى ما كنت: أخشاه أن يعيدوني إلى بغداد في تلك السنوات المنذرة بحرب لعينة فأخضعتها للتشطيبات، لا تذكرني في هذا لأنني لا أسامح تعبي عليه، ولكنني عندما بدأت كتابة روايتي التالية لها مباشرة " خطوط الطول.. خطوط العرض، تحدثت على الروائي الذي نزل شطبا بروايته في عملية تدجين لها وإنما كنت بذلك أجلد نفسي، وعندما صدرت..خطوط الطول.." عن دار الطليعة ببيروت أرسلت الدار عشرين نسخة منها إلى معرض الكتاب ببغداد وصادف أن كنت هناك، ولكن النسخ العشرين رفعت لترمى في مخزن الممنوعات لحرقها، ولكن الصديق ماجد السامرائي أدى لي خدمة كبيرة وقتها عندما جاءني بالنسخ العشرين من ذلك المخزن اللعين حيث كان المسؤول عنه صديقا لنا نحن الإثنين وإشترط أن لا نتحدث بالأمر.

لكن هذا النوع من الكبوات تعترض الكاتب سرعان ما يتجاوزها أو أن هناك من يتفهمها، وعندما تحولت لإقامة بتونس عام 1989 أخرجت المخطوطة الأصلية لتنشر عن دار المعارف التونسية، وبعدها صدرت منها طبعة مغربية بعد صدور ترجمتها الإيطالية في نابولي.

* أية حياة هي؟ سؤال ينطوي على سخرية مرة، هل أنت راض عن حياتك إجمالا؟

- لو أنك أعدت قراءة روايتي المنشورة لوجدت أن السخرية حاضرة بشكل قوي فيها. أتتذكر صوت السلمان في " الوشم" مثلا؟ وقد انتبه عدد من النقاد إلى هذه المسألة أذكر منهم د. محسن الموسوي بعد قراءته الدقيقة لروايتي "الأنهار" وكذلك الصديق الناقد د. حاتم الصكر بالنسبة لكتابي " وجوه مرت- بورتريهات عراقية " حيث قدمت نماذج تمثل الجانب الساخر في الشخصية الشعبية العراقية الذي غطته مأساوية ما مرّ بنا من أحداث، هنا أذكر أن الصديق الشاعر صلاح نيازي حدثني في مكالمة هاتفية كيف أنه وبعد قراءته لهذا الكتاب هو وقرينته الروائية سميرة المانع أصبحا ينطلقان بالضحك كلما تذكرا شخصية من شخصيات هذا الكتاب، وقد دفعت بهذه السخرية إلى أقاصي أخرى في روايتي الجديدة " نحيب الرافدين" حيث السخرية التي ما بعدها سخرية، من النفس ومن الآخر ومن فداحة الأحداث التي عصفت في عراق ثمانينات القرن الماضي. لكن يبقى الجانب الثاني من سؤالك بشأن إن كنت راضيا عن حياتي إجمالا ؟ فماذا أقول لك ؟ وبماذا أجيب ؟ وأتذكر هنا قولا لأحدهم قرأته منذ سنوات لكنه لم يغادر ذاكرتي بل أنني أردده بيني وبين نفسي في لحظات احتدامي وما أكثرها هذه الأيام. جاء في القول (كم كنت أخشى أن تكون حياتي على خطأ في النهاية): فلماذا أردده ؟ هل لأنني أدركت بأنني سكبت سنواتي في قنوات الخطأ ؟ ربما، لكنني أعرف جيدا بأنني لا أعرف الندم المحض، وما مرّ لا يمكن إعادته لأوجهه وجهة أخرى، كما أن العمر لم يعد فيه متسع، والسنوات تقضمنا بشره عجيب، كيف أقترب من السبعين وأنا الفتى الذي ملأ ستينات القرن الماضي بجنونه الجنوبي وأحلامه الصعبة ؟ ومع هذا أقول لك: لقد عشت حياتي بكثير من الصدق والصفاء بعيدا عن الإذعان والرضوخ والامتثال. لذا لم يستوعبني أحد بشكل كامل، هناك دائما ما هو صعب وعصي في شخصي، وهذا لم يعرفه إلا أولئك الذين عايشوني عن قرب رغم أنني محب، لا أكره أحد، ولكنني قد أحتقر الكثيرين، وإن حصلت لحظة مواجهة سأقول لهم ذلك وليكن ما يكون.

ربما أنا غير راض عن الحال التي أنا عليها لأنني لم أساير بل، احتفظت بنقائي الوطني، لذا فعندما أمرض مثلا ستكون المشكلة لأنني لا أعرف كيف أعالج نفسي. ذات يوم كنت في كابوس مرضي شفيت منه والحمد الله حضرني للذهاب إلى المستشفى الحكومي العام، ولمحني فتى ذكي وأنا واقف في الطابور وقد جاء بوالده المسن للعلاج وعرفني، آنذاك تقدم مني وسلّم علي، ثم قال بتأثر: عندما رأيتك لم أصدق عيني، لقد بكيت وفرحت في الآن نفسه، بكيت لأنك بعد كل هذا العمر والعطاء لا تعرف كيف تعالج نفسك وتلك مأساة لكنني فرحت لأنك أكدت لي بأنك نظيف اليد، ولو لم تكن هكذا لكنت تعالج في المصحات الخاصة.

مع هذا يا عزيزي عبد الرزاق فإن ما عشته بكل ما فيه قد كوّنني، صبّني في هذا الكيان الذي تعرفه.

* هل يشكل الماضي أزمة بالنسبة لك كما هو الحال بالنسبة لشاعر عراقي معروف هو سعدي يوسف ؟

- لا أستطيع أن أجيب نيابة عن الأخ سعدي يوسف، ولا أدري أي ماض شكل له أزمة، فلكل واحد منا أكثر من ماض.

أنا لا أرى الماضي عنوانا ولا سببا لأي أزمة بل أراه الاسترجاع الجميل حيث تبدو لي حياتي كوابيه مهما هو لمعدني الخاص، الماضي طيب وجميل، ليس فيه ما يشين. وإذا كان لي ما أوردته لأولادي الثلاثة فهو نقائي، ونصاعة مواقفي.

* الإنسان صنيعة الماضي، إلى أي مدى ساهم الماضي في تشكلك الإبداعي ؟

- ربما كان الماضي المادة التي أشتغل عليها، فبعد تلك السنوات الطويلة أستطيع أن أرى الأشياء بوضوح كبير بحيث لا يبدو ما أكتبه تصفية حساب مع أحد، رغم أن هناك في أي عمل سواء كان سرديا أم شعريا عملية تصفية حساب، لكنها من باب وضع كل شيء في مكانه. أنا دائما أكتب الماضي والفارق هو أنني أكتبه بعين الحاضر ليكون نصي معاصرا، ولذا ما زالت رواياتي وقصصي مقروءة وبلغ عدد طباعتها رقما لم تعرفه القصة ولا الرواية في العراق، وأقول هذا بلا ادعاء ولكن بمفاخرة.

إن الماضي يعيش فينا بالمقدرة على المواصلة ولم يكن يوما محبطا لنا، لأنه الماضي الذي نجدده بكتاباتنا وبرؤيتنا المعاصرة التي تشحن ولا تنضب.

الماضي منذ الطفولة، والتعرف على الأشياء من حولنا هو اليقظة الأبدية لذاكرتنا. أتصدق أنني أتذكر تلك السنوات بكثير من التفاصيل وهو لم يحصل مع أحداث قريبة لم ىتردمها السنوات. كأن الماضي آثارنا التي تحتاج إلى المزيد من التنقيب.

* قبل "أية حياة هي؟" دونت سيرتك الأدبية في كتاب " من ذاكرة تلك الأيام " قدمت فيه شهادتك على الحركة الأدبية والأدباء الذين عرفتهم، لماذا هذا الرجوع إلى الذكرة؟

- لأن هناك أحداثا وسير وأشخاص تكاد تندثر إن لم أوثقها بكتاباتي أو كتابات آخرين جايلوها وعرفوها عن قرب، أستطيع القول أنني عرفت عن قرب أسماء أدبية وفكرية وتنقلت بين أكثر من عاصمة، وقد غادر جلهم عالمنا، فماذا كان انطباعي عنهم؟ وكيف عرفت الحركة الأدبية في البحرين أو في مصر أو في المغرب على سبيل المثال. وهكذا كتبت ولا تظن أن ما كتبته مر بسلام. كما أنني لم أكتب كل شيء عرفته، ففي الأدب كما في الحياة هناك دائما أشياء مسكوت عنها لا خوفا بل مراعاة لأمور لا يمكننا كبشر أن نتجاوزها، وربما يستطيع الكاتب الأوروبي أن يتجاوزها.

وقد وجدت متعة كبيرة في انجاز هذا الكتاب إذ أنني كتبته ونشرته فصولا متعاقبة قبل أن أجمعه في كتاب. وكنت ألجأ إلى ما تبقى في أرشيفي من صور أو رسائل إذ انني فقدت جل أوراقي، وأحرقت مذكراتي التي فاقت الألف صفحة عام 1987 بعد أن اكتشفت أن هناك من قرأها دون علم مني.

وفي كتابي الجديد الصادر عام 2008 بدمشق " وجوه مرت" توقفت عند وجوه من ذلك الماضي الجميل لأكتب عن كل وجه بوتريها "خاصا" به. تلك الوجوه لم يعد أحد من الناصرية يتذكرها إلا جيل الآباء، وليس بينهم من يتذكر أحدها دون أن يبتسم إذ أنها كانت عناوين ضاجة لأفراح الناس البيضاء.

* يختلط في سيرتك صوت السارد والحكاّء مع صوت المدون والموثق: هل لجأت إلى جماليات السرد يستحوذ على القارئ؟

- كتابة السيرة هي عمل أولي شأنه شأن الرواية وكل كاتب يخضع سيرته عند الكتابة عنها إلى أسلوبه الذي عرف به. وعندما كتبت " أية حياة هي؟" كنت فيها حكّاء، ولكن الفرق إنني لم أرو سيرة آخرين بل سيرتي أنا، ولم أكن مدونا فقط، بل وموثقا أيضا. ومن قرأوا هذه السيرة أوتناولوها بالنقد كلهم، اختصوا بها. أذكر هنا ما كتبه د. محمد صابر عبيد، د. حاتم الصكر، د. علي القاكي، د. عبد الله ابراهيم، د. جليلة الطريطر، د. زهور كرام، عبد الرحيم العلام، عبد الجبار العش، عبد القادر ناصر وغيرهم.

أما العنوان فهو تركيب فصيح لمقولة دارجة عراقية "شنو هالحياة؟ " أو ما شابه ذلك. أردت العنوان سؤالا وجوابه في ما ضم الكتاب.

* ما نصيب الخيال القصصي من كل ذلك؟

- نصيبه كبير، فأي كتابة قصصية يتداخل فيها الواقع بالخيال. وترجح كفة أحدهما على الآخر في هذا العمل أو ذاك، ولكن كتابة السيرة فيها الخيال الذي يتأتى من إيصال ما هو واقعي، حقيقي بكتابة أدبية في جزء من المقاربة السردية التي تقدمها السيرة.

• رغم أن المحلية سمة واضحة في كتاباتك الروائية والقصصية، أنت من أكثر الكتاب العراقيين الذين تعاد طباعة كتبهم خارج العراق، كيف يستطيع الكاتب أن يصل إلى القراء العرب ودون التفريط بخصوصيته؟

- هذه هي المعادلة الصعبة، كيف نصل للقارئ العربي الشمال أفريقي كما هي حالتي وبين خصوصيتي العراقية، وكان لي اجتهادي الذي استطعت به أن أوصل نصوصي، وأعترف لك بأنني تعبت في كتابيّ " أية حياة هي؟" و"وجوه مرت" كل التعب، إذ أنني أدركت أثناء كتابتهما أنه لا بد من الدارجة العراقية ولا مفر منها. ولكن ليست الدارجة المقفلة على نفسها، كما فعل كتاب الخمسينات في العراق، بل هي الدارجة المتحررة التي تصل ولا تتعثر، وإذا كان لا بد من شرح لمفردة ففي المتن وليس في الهامش بأن أضع بين قوسين وبعد الكلمة مباشرة المعنى الفصيح لها، وقد حقق هذا تواصلا وانسيابا عند القراءة.

•لماذا معظم أبطال رواياتك من المثقفين الذين أنجبتهم مرحلة الستينات مثل كريم الناصري في "الوشم" و " غيات داود" في خطوط الطول ..خطوط العرض؟

- أنا معك، لقد تحدثت عن هذا في أكثر من مناسبة. ربما لأن جيل الستينات كان خليطا من كل الإتجاهات والأحزاب السياسية التي لم تختلف فقط ويا ليت الأمر وقف عند هذا الحد بل تقاتلت. وسجن من في الحكم منها الذين عارضوهم. ومع هذا كله كان هناك فيض لا يحد من الأحلام. في الكتابة والتجديد والسفر واكتشاف المعالم، هو جيل على قدر كبير من الحيوية الابداعية والحياتية، ولأنني كنت فيه وعرفت تفاصيله، استأثر باهتمامي فكتبت عنه في "الأنهار" كتبت عن حيوية الحياة الجامعية أواخر الستينات والانخراط في عالم الأهوار بثورة مسلحة تتمثل ما كان يحصل في كوبا برمزيها كاسترو وجيفارا. وفي "الوكر" كتبت عن عالم الصحافة وأصحابها.

وعن تونس ولبنان في " خطوط الطول خطوط العرض" كأنني كنت أرسم خارطة بانارومية لما يجري من خلال نخبة من المثقفين النادرين الذين اختاروا أن يكونوا في الخضم محركين لا متفرجين.

غيري كتب عن أناس آخرين وهم أحرار في هذا ونحن لا نبحث في المحصلة الأخيرة إلا عن الروايات والقصص المتفوقة رغم أن تداخل السياسي بالإبداعي أفسد هذا وفق منطق هذا معنا فلننفخ فيه ، وذلك ليس معنا فلنصغر من دوره، وهكذا، علما أنني موقن بأن الحركة الأدبية العربية مخطوفة. والخاطفون أخذوا كل شيء، المال، الجوائز، الإعلام، المهرجانات، تأمل ما يجري لتتأكد مما أقوله دون أن أسمي الأشياء بأسمائها فكلنا نعرف ذلك.

• بدأت صيحات النقاد الغربيين تروج لموت الرواية كيف تنظر إلى هذه الصيحات؟

- هذه مسألة غربية وقد حددتها في سؤالك، أما في الأدب العربي فليس الأمر هكذا، ومدونتنا الروائية ما زالت فتية ولم تصل إلى شيخوختها بعد. عربيا ربما يستطيع البعض منا الحديث عن موقع الشعر اليوم، وأي مآل ينتظره بعد طغيان أشكال محددة على حاضره وغياب الأسماء الأساسية التي يحتاج الشعر العربي إلى أكثر من معجزة حتى ينجب أمثالها.

فلا عبد الوهاب البياتي ولا محمود درويش ولا السياب أو نازك أو عبد الصبور مثلا.

• دخلت في " مماحكات" مع أدباء عديدين رغم أنك تحتفظ بعلاقات حميمة جدا مع الكثير من الأدباء العراقيين والعرب، كيف تنظر للصراعات الأدبية في ساحتنا الثقافية العربية؟

-كل كاتب له خلافاته مع كتاب آخرين، ليس بالمعنى الشخصي بل بالمعنى الإبداعي أيضا، والصراعات الأدبية دليل حيوية في الساحة الثقافية العربية، لكن من المؤسف أن جل صراعاتنا الأدبية هي وجه من وجوه الفساد الأدبي وما سميته في جواب سابق اختطاف الحركة الأدبية، هناك من يقفون بوجهك، هكذا ولا سبب في الأمر، مرة أخبرني صديق أحبه وهو شاعر محترم بأن محررا لجريدة كبيرة أعطاه كتابي " أية حياة هي؟ " وهو يقول له : أريدك أن تشتمه بهذا الوضوح، ولكن بعد أن قرأه وجد الكتاب أهلا للتحية وليس للشتيمة. وهذه حالة واحدة من عشرات الحالات، وأنا لا أستاء من أمور كهذه بل أشعر بصغر ودونية من يقدمون عليها، وهم مع الأسف الشديد موجودون ومتوفرون أينما ذهبت.

•تونس، ماذا تمثل لك؟ هل يمكن أن نعتبرها وطنا بديلا؟

-تمثل تونس بالنسبة لي عشرين عاما من الإقامة والعمل والصداقات والمحبة، تونس تمثل لي ولدي سومر الذي احتفلنا أخيرا بعيد ميلاده الخامس عشر. وأعتبر تونس وطنا، ولا أقول وطنا بديلا. وقبل أيام كنت أراجع سنوات عمري فاكتشفت أنني عشت في تونس أكثر مما عشت في بغداد، وأنت تعرف ما معنى عشرين عاما من الحياة المتواصلة في مدينة واحدة حتى إذا ما غادرتها في زيارة لبلد عربي آخر فإن حنيني يكبر لها، لقد ألفتها وألفتني، وتناغمنا كأنني ابنها الذي ولد فيها.

• موقفك واضح من الإحتلال الأمريكي، هل تؤمن بوجود أدب مقاومة عراقي؟

- لا أظن أن هناك مبدعا مهما كان رأيه في نظام الحكم القائم ببلاده يرتضي أن يتم إسقاط هذا النظام بغزو خارجي، فهذا معناه أن هذا الغزو سرق من الوطنيين شرف إسقاط هذا النظام، ووفقا لهذا التوصيف لا أعرف روائيا أو شاعرا أو ناقدا ينساق مع خطاب الغزاة ويحوله إلى خطابه. ولكن من الصعوبة أن أستعمل مصطلح أدب مقاومة عراقي كما هو حال أدب المقاومة الفلسطينية والجزائرية مثلا، لكن هناك بدايات أو ما يشبهها في الشعر بشكل خاص، وفيها رفض للإحتلال وإدانة له وتشهير بما فعل، ولا أريد أن أذكر الأسماء فبعضها ما زال موجودا في العراق وهناك أيضا روايات قليلة فيها هذا النفس المقاوم، مثل رواية "حليب المارينز" لعواد علي و"الحفيدة الأمريكية" لإنعام كاججي، إن أخشى ما أخشاه في الحالة العراقية هو سير بعض الأدباء وراء السياسيين فهذا معناه الكارثة بكل معناها، معناه خيانة تراث أدبي عراقي مقاوم من معروف الرصافي والجواهري وذو النون أيوب وعبد المجيد لطفي والبياتي وبلند الحيدري والسياب وغائب طعمة فرمان وشاذل طاقة وشفيق الكمالي ومهدي عيسى الصقر ونازك الملائكة، وصولا إلى الأحياء أمثال سعدي يوسف وسامي مهدي وحميد سعيد وصوت العراق أبو خالد عبد الرزاق عبد الواحد.

• هل لك أعمال تنجرد ضمن هذا الإطار؟

- كتبت مئات المقالات منذ تسعينات القرن الماضي وحتى اليوم وفيها رصدت كل ما يجري في العراق ودافعي غيرة وطنية، زعل مني أكثر من سفير بتونس لصراحتي، ولم أتوقف، وواصلت بعد ضرب لعراق واحتلاله. وكنت في كل هذه الكتابات واضحا ومتجانسا مع نفسي، ولم أهرع كما هرع آخرون طلبا للثمن من الحكام الجدد.

والحديث طويل، ولك أن تعود إلى أرشيف عريض في الصحافة التونسية أو تلك التي تصدر في أوروبا مثل "القدس العربي"، حتى في الفضائيات إذ لم أظهر على أية فضائية لها علاقة بالإحتلال.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com