تحقيقات

نيسان شهر .. العطاء .. والعَجّات .. والكذب

 

كوثر الكفيشي/ بنت الرافدين/ بابل

نيسان شهر الخير والعطاء، شهر الولادة والتجديد، شهر قدسه القدماء ومازال يقدسه الحاضرون لكونه يرمز إلى الحياة، لأن في هذا الشهر تولد الشجرة من جديد وتزهر الزهور مرة وأخرى وتتدفق الأنهار بالعطاء ويكون الجو ملائم للاستجمام، في هذا الشهر احتفل أسلافنا من الرافدين لأنهم كانوا يدركون بأن بلادهم لا تساوي شيئاً من دون هذين النهرين ولذا لقبت النهرين بالرافدين لأن هذين النهرين وفي هذا الشهر يرفدان العراق بالماء والماء هو سر الحياة.

قدس اليونانيون هذا الشهر لعلمهم بأن جزرهم ستلبس الحلة الخضراء في هذا الشهر وما بعده، وعلى الرغم من أن جزيرتهم لا تفقد ثوبها اليانع إلا أنهم رغم كل ذلك كانوا يدركون أهمية شهر نيسان وفضله على باقي الأشهر فكان ثوكوديدس وهيرودوت يذكران في كتبهما بأن سبب إبداع اليونانيين هو جمال البيئة وطبيعة أرضهم الخلابة، وقد ذكرا في مؤلفاتهم اهتمام شعبهم وتقديرهم لهذا الشهر.

أما اليابانيون وقد شهدنا جميعنا قبل أيام احتفالاتهم الكبيرة بمولد الشجرة في هذا الشهر، وقد نفلت لنا الفضائيات كيف احتفل صغيرهم وكبيرهم على حد سواء، وقد رأينا خروجهم الجماعي وجلوسهم تحت الأشجار المورقة.

نحن و...ونيسان

ولكن يا ترى أي طقوس نقدمها نحن في هذا الشهر؟ أو بالأحرى كيف نحتفل نحن بهذا الشهر؟ هل وقف أحدنا وقفة مؤمل وشاكر لله على ما أنعم الله على بلدنا من خيرات في هذا الشهر خاصة وأن 80% من الشعب العراقي يعتبر من الطبقة الريفية التي تقتات على المنتجات الزراعية.

نلاحظ بأن أسلافنا من السومريين كانوا يلجئون إلى المعابد ويقدمون القرابين إلى الآلهة ليزيدوا العطاء في هذا الشهر لأن كلما زاد الماء كلما أينعت الأشجار وكان الموسم موفراً فكان المردود عليهم أكثر، فتكون بذلك قوتهم الاقتصادية والسياسية والعسكرية في المنطقة أكثر، ولكن يا ترى هل ستجد أي واحد منا في هذا الشهر سجد لربه سجدة شكر لما أنعم خالقه على بلاده، وطالباً بذلك من ربه المنعم، المزيد من الخير والعطاء.

هل صلى كل واحد منا ركعتين طالباً من الله هطول المطر؟

كل العالم يحتفل بجمال الطبيعة غير أننا نكره هذا الشهر لأنه شهر العَجّات والعواصف الرملية وإيذاناً بقدوم الحر وما يحمله من انقطاعات في الكهرباء ونقص بالوقود وجشع أصحاب المولدات و... و... و...

ألم يقف أحدنا وقفة تعجب واستفسار من اختلاف بين كتبنا ومصادرنا وما يحمله لنا الواقع الحالي حيث تلقب الكتب العراق بأرض السواد، أما الآن نلاحظ ارتفاع الحرارة ونقص باللون الأخضر، أعلم بأن لماضي العراق المأساوي دوراً، غير أن هذا لا يعني بأن يكون الشماعة التي نلقي عليها كافة أخطائنا، فنحن المقصد الأول في هذا الباب، فبدلاً من أن نشكر الله وندعو طالبين منه المزيد من الخير نلجأ إلى الكذب.

كذبة نيسان

في أول يوم من هذا الشهر تهتز ميزان أعمالنا كثيراً، حيث أن الكثير منا يلجأ إلى المزحة والمزحة القاسية منها وليضحك بذلك من حوله فيلجأ إلى الكذب ناسياً لعنة الله الموعودة للكاذب، حتى وان كان مازحاً ((لعن الله الكاذب ولو كان مازحاً)).

في الماضي وفي إحدى أيام المدرسة جاءت صديقتي مهرولة لي وصارخة: الحقي بشقيقتك: فقد وقعت من الدرج وفجّ رأسها.

أذكر وقتها... أو بالأحرى لا أذكر ماذا فعلت وكيف تجاوزت صفوف البنات المتوزعات هنا وهناك باحثة عن أختي، وفي صراع هذه الأحداث لم انتبه إلا وضحكات تتعالى بين صفوف صديقاتي، أجبنني نأسف عزيزتي كانت كذبة نيسان.

تذكر لي والدتي بأنه كانت معهم موظفة متزوجة حديثاً، في هذا الشهر الجميل وإذا بالهاتف يرن في غرفة العمل مخبراً إياها بأن زوجها قد عمل حادثاً وهو في المستشفى ينتظر رحمة الله ولطفه، فما كان من هذه المسكينة إلا وقد أغمى عليها، وما كانت تفتح عينيها حتى تعالت ضحكات زميلاتها وزملائها بالعمل... (يمعوده شبيج ... هاي جذبة نيسان).

عندما كنا في السجن وبين دهاليز الظلمة وردهات الخوف والألم ننظر لأي شعاع ضوء، نظرة حب وفرح ونمني النفس بالآمال الجميلة، وتسرح مخيلتنا بالأحلام المتعددة لهذا الضوء وما سنفعله أول مرة عندما نخرج لنرى هذا الضوء و نتخلص من السياط الصدامية، هكذا كانت تحدثني السجينة افتخار عبد الله، وفي ذات يوم جاءنا آمر السجن مبتسماً: حضروا أنفسكم لقد صدر العفو بحقكم!!

تقول افتخار ما كدنا نسمع هذا الخبر حتى كبرنا وقبلنا بعضنا بعضاً، وتوجهنا للصلاة شكراً لله وذهبنا لنحضر متاعنا للخروج وما كدنا ننتهي من إنهاء كل شيء، ولا أعرف كيف أصف لكِ تلك اللحظات وكيف كنا نمني النفس بالآمال الجميلة، ولكن ما كاد يكتمل هذا النسيج الجميل، حتى تعالت الأصوات الجلادة، ضاحكة ساخرة منا (يمعودات صدكتن جانت جذبة نيسان)، بالنسبة لهم كانت كذبة ولكن بالنسبة لنا كان الانهيار بعينه.

الخاتمة

في الختام أشكر ربي المتعال الذي وهبنا هذا الشهر الجميل شهر العطاء والخير والبركات، شهر التقلبات الجميلة في الجو، حيث الاعتدال النهاري والبرود الليلي.

وثانياً أدعو شعبي من المواطنين أولاً، والمسئولين ثانياً، أن نهتم بهذا الشهر، فلو زرع كل واحد منا غرسة صغيرة في هذا البلد الكبير لأصبح لكل مدينة حزام أخضر، لأن هذه ليست بمهمة الدولة فقط، بل هي فرض عين، وذلك لأن النفع يعود على الجميع حيث سنتخلص من العَجّات والعواصف الرملية، وسيتحسن الجو ويميل نحو اللطافة بالإضافة إلى فوائد جمة أخرى..

وأخيراً أظن بأن حياتنا لا تحتاج إلى المزيد من التشنج، فأيامنا متشنجة وكئيبة بما يكفي من الآلام اليومية، فهي لا تحتاج إلى المزيد من الكذب، خاصة وأن حياة الكثيرين منا لا تخلو من هذه الظاهرة الأخلاقية السيئة، لذا لا أظن بأننا بحاجة إلى كذبة إضافية في هذا الشهر لنضفي عليها صفة الشرعية ونسميها كذبة نيسان.

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com