تحقيقات

امريكا هي الاقوى؟

 

جيفري أيه غارتن

 لقد بدأ النهوض ولو بفتور وتردد. ربما لا نشعر به بعد، لا سيما في الولايات المتحدة وأنحاء كثيرة من أوروبا، حيث لا تزال التجارة تشهد ركودا وتزداد عمليات حبس الرهن ولاتزال معدلات البطالة مرتفعة. لكن صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، اللذين كانا حذرين في توقعاتهما السنة الماضية، يقولان إن هناك تحسنا ـ ولو متواضعا ـ يلوح في الأفق. هذا الشهر، رفع صندوق النقد الدولي تقديراته للنمو العالمي العام المقبل من 2 بالمائة، وهي توقعات أطلقها في أبريل، إلى 2.5 بالمائة. كما أن منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية رفعت توقعاتها فيما يتعلق بنمو البلدان الغنية للمرة الأولى منذ بدء الأزمة. وخفت حدة المخاوف من انهيار النظام المالي العالمي، وعلى الرغم من الضغوط الحمائية المستمرة، فقد خف القلق في الأوساط الحكومية من مواجهة العالم كارثة شبيهة بتلك التي حصلت في ثلاثينات القرن الماضي.

مع أن التحسن في الولايات المتحدة قد يحدث بسرعة أكبر منه في معظم البلدان الأخرى، فإنه من غير المرجح أن يكون كبيرا بما يكفي ليكون محرك النهوض العالمي، كما حصل في فترات الركود السابقة. وإذا كان بإمكان أي بلد تحقيق هذه المهمة، فهو قد يكون الصين، حيث يبلغ معدل النمو 7 بالمائة على الأقل. الواقع هو أن الوضع الاقتصادي الأمريكي لا يزال مضطربا» على الرغم من ازدياد الأرباح في بنوك مثل "غولدمان ساكس" و"جيه بيه مورغان"، هناك عشرات من البنوك العملاقة الأخرى، أبرزها بانك أوف أميركا وسي آي تي وسيتي غروب، تتخبط في المتاعب. لا يزال هناك أصول سامة بقيمة مليارات الدولارات لم يتم احتساب الخسائر المتعلقة بها بعد، كما أن إعادة ترتيب الهيكلية التنظيمية المتفككة للبلاد لم تبدأ بعد. فمعدل البطالة يلامس الـ10 بالمائة، (أو 20 بالمائة إذا احتسبنا الموظفين بدوام جزئي اليائسين والأشخاص الذين توقفوا عن البحث عن عمل)، وقد ازدادت عمليات حبس الرهن ولا تزال معدلات التجارة تشهد انكماشا. كل الولايات تقريبا تعاني عجزا في ميزانيتها، والكثير منها مثل كاليفورنيا وميشغان وفلوريدا تشهد ظروفا صعبة جدا وستظل تعاني مشاكل كبيرة لسنوات عدة على الأقل.

كيف تقود أمريكا عملية النهوض إذن؟ ليس بالقوة الاقتصادية بل بالظروف السياسية، وهو أمر مدهش. هذه مفارقة لأن محور واشنطن ووول ستريت، معقل الرأسمالية الآنغلوساكسونية، تعرض للتشهير في كل أنحاء العالم خلال الأشهر الـ18 الماضية. فقد أعلن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل نهاية الهيمنة الرأسمالية الآنغلوساكسونية، ووبخت مجموعة من كبار المسؤولين الصينيين، مثل نائب رئيس الوزراء وانغ كيشان ومحافظ البنك المركزي جو شياشوان، الولايات المتحدة على تهتكها. حتى بعض الأمريكيين المحترمين أمثال روجر ألتمان، نائب وزير الخزانة في إدارة كلنتون، أعلنوا نهاية الدور الريادي الأمريكي في القطاع المالي. لكن الحقيقة هي أن واشنطن تصرفت بسرعة وبحزم لإنقاذ الاقتصاد العالمي من الانهيار (حتى وإن كانت مسؤولة عن الفوضى التي توجب عليها معالجتها).

فضلا عن ذلك، على الرغم من التحديات الكبيرة التي يواجهها الرئيس أوباما، فهو بلا شك القائد الأكثر إثارة للإعجاب، وهو أكثر ثقة بنفسه وأكثر فصاحة وأكثر حنكة سياسية من أي من القادة الآخرين. رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون يتعرض لهجمات ضارية في بلده، وإعادة انتخابه تكاد تكون مستحيلة. واحتمالات فوز رئيس الوزراء الياباني تارو آسو تبدو ضئيلة مع اقتراب الانتخابات المبكرة التي دعا إلى إقامتها في 30 أغسطس. وتواجه المستشارة الألمانية أيضا انتخابات وشيكة وقد عارضت بشدة الخطة التحفيزية التي يبدو أن العالم في أمس الحاجة إليها، كما أن الرئيس الفرنسي متقلب جدا وحاد الطباع بشكل لا يمكنه من أن يكون فعالا على الساحة الدولية. هذا لا يترك سوى الصين، حيث النمو قوي والبنوك تملك أموالا وفيرة. لكن الرئيس هوو جنتاو لا يطمح لأن يكون قائدا عالميا، والعالم لن يتقبل رئيسا صينيا في دور كهذا قبل سنوات عدة.

إن نفوذ واشنطن الجديد يعود إلى حد كبير إلى وجود أشخاص أكفاء فيها في مواجهة الأزمة. فعلى الرغم من الانتقادات الشديدة التي وجهها الكونغرس أخيرا لوزير الخزانة السابق هانك بولسون لأنه تصرف باستقلالية وبتعجرف مفرطين، وعلى الرغم من بعض الأخطاء التي اقترفها فريق عمل الرئيس السابق بوش، مثل عدم إنقاذه لشركة "ليمان براذرز"، فإن الفضل يعود لبولسون ورئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي بن برنانكي لأنهما تصرفا بسرعة وجرأة في مواجهة التحديات الكبيرة وبوجود رئيس تشارف ولايته على الانتهاء وكونغرس عدائي تجاههما. اليوم، ثقة العالم كبيرة بأن إدارة أوباما، بما فيها وزير الخزانة تيم غايتنر والمستشار الاقتصادي في البيت الأبيض لورنس سامرز، وبرنانكي، ستتبع سياسات حكيمة. مقاربتهم الحذرة تجاه التغييرات التنظيمية (التي يسهل اقتراف الأخطاء عند اعتمادها) جعلت المستثمرين أكثر اطمئنانا مما كانوا سيكونون عليه لو أن ردة الفعل التنظيمية كانت شبيهة باعتماد قوانين مثل قانون ساربينز أوكسلي. فضلا عن ذلك، لو حصلت الأزمة عندما كان فريق عمل بوش المؤلف من وزير الخزانة جون سنو (الذي لا يتمتع بأي خبرة مالية تقريبا) ورئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي آلان غرينسبان (الذي تقع عليه الملامة لنشره مبدأ التطرف في الدفاع عن السوق الحرة الذي أدى إلى هذه الكارثة) في موقع المسؤولية، لكان العالم نظر إلى احتمال لعب أمريكا دورا قياديا بشكل مختلف جدا.

ما يساعد إدارة أوباما أيضا هو أن العالم يتوق إلى من يقوده في وجه كل هذا الغموض. وهو مستعد لتأييد أي نوع من التقدم، حتى وإن تمثل ذلك في تباطؤ النزعات السيئة ليس إلا. سيواجه الاقتصاد العالمي مصاعب كثيرة. لكن استنادا إلى رحلتي حول العالم التي تحدثت خلالها مع الكثير من قادة الأعمال، أعتقد أن هناك انطباعا قويا في أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية بأن الأشخاص المناسبين يعالجون الأزمة. وعلى الرغم من كل المطالبات بزيادة التدخل الحكومي للحؤول دون حصول أزمة أخرى، والتشكيك في نموذج الرأسمالية الآنغلوساكسوني، قد تكون القيادة الأمريكية والأسواق المنفتحة على الطراز الآنغلوساكسوني ما يريده العالم في الواقع. فهذا النظام هو الذي كان سائدا خلال السنوات الـ30 الماضية من الازدهار العالمي. أوروبا، فضلا عن أسواق نامية كبيرة مثل الصين والهند والبرازيل والمكسيك وتركيا، استفادت كلها إلى حد كبير من الوضع القائم آنذاك عندما كانت القروض متيسرة والتجارة مزدهرة. قد تفهم هذه البلدان أنه سيصعب العودة إلى ذلك الزمن، لكنها لا تملك أي خيار آخر وبالتالي تفضل أن تستمر في اتباع النموذج الأمريكي قدر الإمكان، بالرغم من التهجم السياسي على أمريكا، الضروري للاستهلاك المحلي. وقد تكون هذه البلدان مخطئة أيضا، لأنه من دون تغييرات هيكلية كبيرة ــ مثل الحد من الاختلال الكبير في التوازن التجاري والمالي بين الولايات المتحدة والصين ــ قد تلوح أزمة جديدة في الأفق. لكن في الوقت الراهن، لا يعير القادة الحكوميون وقادة القطاع التجاري اهتماما كبيرا لهذه المشكلة. ما هي الخطوات التالية إذن؟ هناك شرطان ضروريان كي تتمكن الولايات المتحدة من المحافظة على دورها الريادي المتجدد وتوجيه النظام العالمي في اتجاه يجعله أكثر استقرارا.

الشرط الأول يقضي بأن يظهر الرئيس أوباما وفريق عمله الاقتصادي أنهما جديان في التعامل مع العجز الذي يفوق التريليون دولار الذي ستعانيه الولايات المتحدة خلال العقد المقبل على الأقل. وحتى الآن لم يقوما بذلك مع أنهما تحدثا عن الأمر. لكن هذا المجهود ضروري من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، لأنه أساسي في تهدئة المخاوف المتنامية في الأسواق بشأن التضخم المستقبلي وتراجع قيمة الدولار, وهي مخاوف قد تصبح حقيقة بكل سهولة.

لكي تكون الإدارة جديرة بالثقة، عليها أن تخلق هيكلية للانضباط المالي الذي لا وجود له بأي شكل حاليا. هذا يعني تحديد أهداف عامة يؤيدها الكونغرس، فيما يتعلق بمعايير عدة اقتصادية. سأترك لعلماء الاقتصاد أن يقرروا أيا من المعايير يجب استعمالها، لكن بعض الأمثلة تتضمن نسبة عجز الميزانية مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، ونسبة الدين الوطني العام مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، ونسبة خدمة الدين من الإنفاق العام. يجب أن تظهر هذه النسب وجود نمط من التحسن خلال السنوات الكثيرة المقبلة، حتى مع ازدياد الإنفاق الحكومي على الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية (برنامج رعاية الشيخوخة، ميديكير) لتغطية حاجات المولودين بعد الحرب العالمية الثانية البالغ عددهم 75 مليونا. فعلى سبيل المثال، سيبلغ عجز الميزانية العام المقبل 13 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو الأعلى منذ الحرب العالمية الثانية. يجب أن يكون الهدف تخفيض العجز بنسبة 1 بالمائة سنويا، بدءا من عام 2012 مثلا، إلى أن يصل إلى 4 بالمائة.

الطريقة الوحيدة لتفعيل نظام كهذا هي من خلال إجراء تغييرات ضريبية مهمة، ربما بشكل ضريبة مبيعات وطنية تتضمن ضريبة على بيع الوقود في المحطات (بحيث تتم مراعاة ذوي الدخل المتدني لتخفيف الأعباء المعيشية على الفقراء). فعلى الولايات المتحدة أيضا أن تغير بشكل جذري فلسفتها لتحديد من المؤهل للحصول على الضمان الاجتماعي والمنافع الطبية في الشيخوخة. هذا قد يتضمن رفع السن التي يمكن للمسنين أن يبدأوا بالحصول فيها على منافع الضمان الاجتماعي وتخفيض هذه المنافع التي يحظى بها ذوو الدخول المرتفعة. هذه خطوات شديدة الصعوبة، على أقل تقدير، وشديدة التعقيد سياسيا. لكن إذا لم تتخذها واشنطن، فإنني أتوقع أن الأسواق ــ لا سيما تلك التي تمتلك سندات خزانة أمريكية في الداخل وخاصة في الخارج ــ ستجبر الولايات المتحدة على القيام بهذه التغييرات بطريقة قاسية من خلال المطالبة بزيادة كبيرة في معدلات الفائدة وتخفيض كبير في قيمة العملة أو كليهما. الوضع سيكون مشابها لما حدث عام 1987، عندما انهارت الأسواق الأمريكية مع ازدياد العجز التجاري وعجز الميزانية. ففي اليوم الذي أعقب انهيار الـ19 من أكتوبر، سارع الكونغرس لإقرار قيود كبيرة على الميزانية. لكن العجز أكبر نسبيا اليوم ــ فالدين الحكومي يساوي 68 بالمائة من قيمة الاقتصاد، مقارنة بنحو 50 بالمائة عام 1987 ــ ودرجة الألم التي قد يفرضها الدائنون قد تكون أكبر بكثير.

على الصعيد السياسي، يجدر بالإدارة أن تستمر في التحاور بشكل أوسع مع كل البلدان فيما يتعلق بمستقبل الاقتصاد العالمي. فمن الناحية الاقتصادية، ليس واضحا ما يتم تحقيقه خلال اجتماعات مجموعة الدول الصناعية السبع ومجموعة الدول الـ20 واجتماعات الولايات المتحدة والصين. لكن كي تتمكن الولايات المتحدة من لعب دور قيادي، يجب أن يكون هناك من يتبعها. ولكي يحصل ذلك، على الحكومة الأمريكية أن تصغي جيدا. البعد السياسي للتعاون الاقتصادي ليس مختلفا جدا عما يحدث داخليا. فالمساهمون يريدون أن يشعروا بأنه يتم الاستماع إلى مخاوفهم وفهمها. وقد تضطر الإدارة إلى توسيع فريق عملها ليضم المزيد من المبعوثين رفيعي المستوى, وقد يكونون من قادة الأعمال المحنكين والناجحين الذين لا يحظون بتمثيل كاف في أعلى الهرمية في الإدارة» لا يمكن للوزير غايتنر تحمل العبء بمفرده. وعلى الإدارة أن تحرص أيضا على ألا تعود إلى ممارسة عادة إلقاء المواعظ المتعجرفة التي تميزت بها إدارات سابقة كثيرة، ديموقراطية وجمهورية.

أخيرا، لا يزال ينبغي تصميم النظام المالي العالمي المستقبلي. فعلى الرغم من حصول اجتماعين لمجموعة الدول الـ20، واجتماعين لمجموعة الدول الثماني، ودراسات لا تحصى أجرتها منظمات دولية في القطاعين العام والخاص، لاتزال المسائل المهمة قيد الدرس، بما فيها عدم ارتباط السوق العالمية والمؤسسات التنظيمية الوطنية المختلفة، والضعف الكامن في التنسيق الدولي. وفي الحقيقة، تزداد الضغوط القومية في أسوأ وقت ربما. وفيما يلي بعض المسائل التي يتم التجادل بشأنها والتي ما من إجماع عليها بالكامل: من المسؤول عن تنظيم المؤسسات المالية العالمية الكبيرة التي تؤثر على الكثير من البلدان ومن المسؤول عن إدارة إعادة هيكلتها؟ كيف يمكنها أن تشرف على المشتقات المالية المعقدة؟ ما هو رأس المال الذي من الضروري أن تمتلكه المؤسسات المالية كضمانة ضد الخسائر في اقتصاد عالمي مضطرب، وكيف يجب دفعها إلى القيام بذلك؟ من الذي ينظم أمور العدد الكبير من المؤسسات العالمية (الضعيفة), مثل صندوق النقد الدولي وبنك التسويات الدولية ومنتدى الاستقرار المالي؟ إن لعب فريق أوباما دورا رياديا في التعامل مع مسائل كهذه، سيشكل ضمانة كبيرة لاستمرار الرأسمالية على الطراز الأمريكي لمدة أطول، بعدما كانت قد اعتبرت محتضرة منذ فترة غير بعيدة.

النقطة الأساسية هي أن أمريكا قادرة على قيادة النهوض العالمي سياسيا من دون أن تقع على عاتقها المسؤولية الاقتصادية كاملة. وللاستمرار في ذلك، عليها اتخاذ قرارات صعبة جدا في الداخل والانفتاح دبلوماسيا بشكل لم تفعله أي إدارة أخرى منذ عقود. يجدر بالولايات المتحدة وبقية دول العالم، التي سترزح تحت وطأة الديون والعجز طوال سنوات، أن تتكيف مع هذا الواقع الجديد.

 

غارتن هو أستاذ كرسي جوان تربي المختص بالتجارة الدولية والشؤون المالية في كلية إدارة الأعمال بجامعة ييل، وكان نائبا لوزير التجارة في إدارة كلنتون ومديرا لمجموعة ابلاكستون».

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com