|
مقالات مفهوم الديمقراطية
امنة الكفيشي / جامعة بابل غايتنا في هذا البحث أن نبرهن على أن الديمقراطية تجربة إنسانية يفرضها العقل البشري، وتحتمها الأخلاق لتحافظ على كرامة الإنسان وقيمته، وأن نكشف بالتالي عن خطأ الأفكار المتداولة عن الديمقراطية لاسيما في وطننا العربي، كأن يقال مثلاً إنها تجربة يونانية مارستها أثينا بصفة خاصة، أو يقال أنها تجربة انجليزية على اعتبار أن الديمقراطية قطعت شوطاً بعيداً من حياتها في إنجلترا. أو أن يقال أخيراً أن الديمقراطية نظام غربي، وهي تجربة لمجتمعات خاصة، وبالتالي لا تصلح لدول العالم الثالث. صحيح أن الديمقراطية بدأت عند اليونان، وصحيح إن دستور صولون شكّل البداية لتطور هذا النظام، ولا تزال الكلمة تحمل الاشتقاق اللغوي الذي يدل على هذا الأصل ((demos أي الشعب، kratia أي الحكم، فهي حرفياً كلم الشعب كله لا فئة منه))، وصحيح أيضاً أن الديمقراطية في أعلى أطوارها تمارس الآن في إنجلترا، لكن الأخطاء في فهم هذه الحقائق تظل مع ذلك قائمة، فالتجربة الديمقراطية التي بدأت عند اليونان تطورت تطورا بعيد المدى، حتى أصبحت تختلف اختلافاً جذرياً عن التجربة القديمة، مما يجيز لنا القول إنه لم يبق يونانياً منها سوى الكلمة، وبذلك أعني أنها تجربة إنسانية عالمية في المقام الأول، وليس (تجربة الآخرين) المختلفين عنا و لا يجوز لنا أن ننقلها عنهم. والواقع أننا ننسى أن الديمقراطية كانت شكلا من أشكال الحكم، ظهرت معه وقبله، وبعده، أشكال أخرى كثيرة، لكنها سقطت في مسار التاريخ الإنساني، وأخفقت على محك التجربة البشرية، ومما يؤكد ما نقول أن هذه النظم السياسية، كانت في الأعم الأغلب، يونانية الأصل فأثينا نفسها مرّ عليها، كما مرّ على غيرها من المدن اليونانية، كنظام الحكم الأرستقراطي أي الحكم الأفضل وهي حكم القلة الفاضلة، والأوليجاركي أي القلة الغنية، والتيراني أي حكومة الطغيان، و الديماجوجية أي قيادة الجماهير... الخ. فهذه كلها أشكال من النظم السياسية ظهرت في بلاد اليونان، ولا تزال أسماؤها يونانية الأصل. إذن، أشكال كثيرة، مختلفة ومتنوعة ظهرت مع الديمقراطية عند اليونان سقطت كلها وبقيت تجربة الديمقراطية التي أثبتت جدارتها وقيمتها فأصبحت الشكل السياسي النموذجي من أشكال الحكم. ولقد بلغ تعدد النظم السياسية في المدن اليونانية حداً جعل أرسطو، يتمكن من دراسة مائة وثمانية وخمسين دستوراً أي شكلاً سياسياً لم يبق منها للأسف سوى (دستور الأثينيين) الذي يروي فيه كيف مرّت مدينة أثينا نفسها بتجارب سياسية متعددة، قبل أن تأخذ بالنظام الديمقراطي وبعده. وفضلاً عن ذلك فقد كانت هناك ضروب مختلفة من الحكم في الشرق: في مصر، وبابل، وفارس...الخ. حتى أن هيرودت يذكر في كتابه (التاريخ) مشهداً لسبعة أشخاص من الفرس يتناظرون حول خصائص الحكومات المختلفة، ومزايا كل نظام وعيوبه، وينتهي الحوار بتفضيل الحكم الديمقراطي الذي يحقق رغبة الإنسان في مساهمة الأغلبية في شئون الحكم، كما يحقق المساواة للجميع أمام القانون. لقد بدأت الديمقراطية بتجربة بالغة البساطة تأخذ بها مدينة أثينا، حيث كان يجتمع الشعب كله بذاته، لا هيئة منتخبة عنه ، فعلى الرغم من تطبيق الديمقراطية إلى أن مصطلح الشعب لم يكن هذا المعنى الذي هو عليه في يومنا هذا، فجعلوه يعني مجموع المواطنين الأثينيين الذكور الأحرار ممن بلغوا سن العشرين، وبذلك أخرجوا النساء والعبيد وكبار السن من مفهوم الشعب بل إن أفلاطون قد فهم الشعب في النظام الديمقراطي على أنه مجموع الغوغاء أو الدهماء ومن على شاكلتهم، وهم عند أرسطو، جمهرة المواطنين الفقراء في مختلف المدن. وهذا الفهم القاصر ذاته لمصطلح الشعب هو الذي ساد الديمقراطية الرومانية. التي خضعت للعديد من القيود والضوابط التي وجهت لها الكثير من الانتقادات وبأنه نظام يجعل السيادة للشعب بدلاً من القانون. وخلاصة ذلك كله أن الديمقراطية، تجربة إنسانية أثبتت جدارة وحقاً في البقاء، فقد ظهرت معها نظم كثيرة زالت أو هي في طريقها إلى الزوال، مما قد يؤكد فكرة الفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر القائلة بأن ((الصراع من أجل البقاء ليس قانوناً ينطبق على الكائنات الحية، أو في ميدان البيولوجيا فحسب، وإنما يصدق في ميدان النظم السياسية والاجتماعية كذلك)). فالديمقراطية، إذن، تجربة الإنسان بما هو إنسان لا من حيث هو يوناني أو عربي، إنجليزي أو غربي، ومادامت الديمقراطية تجربة إنسانية فهي مشروع بالمعنى الحرفي للكلمة، ولهذا فهو يخضع باستمرار للنقد والفحص والمراجعة والتصحيح، وذلك جزء من صميم الديمقراطية نفسها، فهي لم تتخذ في مسارها الطويل شكلاً واحداً ثابتاً لا يتغير، فالمبادئ التي تقوم عليها (كالحرية والعدالة والمساواة...الخ). هي وحدها الثابتة التي لا تتغير، لكنها تغيرت مع طبيعة المجتمعات وثقافتها وتراثها، لهذا اختلفت الديمقراطية الإنجليزية ـ كثيراً أو قليلاً ـ عن الديمقراطية في الولايات المتحدة، وهذه عن صورتها في فرنسا أو إيطاليا وهكذا. ومع اختلاف صور الديمقراطية اختلفت النظرة حول أسس هذه الديمقراطية. وأولها: الحرية، والتي هي ((ماهية الروح)) كما قال هيجل. أما جون لوك ـ الذي أمدّ مسيرة الديمقراطية بكثير من الأفكار الأساسية ـ يعبر عن الحرية بقوله: ((أن الناس جميعاً أحرار وهم سواء في حقوقهم السياسية، والناس جميعاً متساوون، فلا مراتب ولا درجات، ولا فئات بين البشر...)). حتى أن عملاقي الفكر اليوناني ـ أفلاطون وأرسطو ـ قد فهما الحرية بمعنى أن يفعل المرء ما يشاء وهذا هو ما أطلق عليه برلين ((المعنى السلبي للحرية)) فالفكرة الأفلاطونية تقسم الناس إلى طبقات ثلاث والتي لا تتخيل أنه يمكن للعامل أن يصل إلى مقعد الحكم، فذلك لا يمكن أن يسمح بالحرية للجميع. غير أن جان جاك روسو لم يكتف بفكرة لوك أن الناس جميعاً أحرار، بل أراد أن يحدد معنى هذه الحرية لأنه لم يكن يقتنع بالمعنى السلبي الذي ساد قروناً طويلة والذي يجعل الحرية في أن يفعل المرء ما يشاء، أو أن يتحرر من كذا من القيود، ولهذا نراه يقول: ((لا تعتمد الحرية على أن يفعل الفرد ما يريد بإرادته الخاصة بقدر ما تعتمد على ألا يخضع لإرادة شخص آخر، وهي تعتمد أكثر على عدم خضوع الآخرين لإرادتي الخاصة...)). ولا نريد هنا أن نتتبع كل ما قيل عن الحرية فهو فوق المحصور، لكنّا أردنا فحسب أن نقدم نماذج من الجهود التي بذلها المفكرون في عصور مختلفة دون اتفاق تم بينهم على تحديد معنى للحرية. أما الأساس الثاني فهو المساواة، فيمكن القول إنه على الرغم من إنها فكرة حديثة، فقد جاءت قديماً عند أرسطو وهو يتحدث عن فكرة (العدالة) في الكتاب الثالث من الأخلاق ،حيث يذهب إلى أنه (( ينبغي ألا يكون هناك تمييز بين الناس المتساوين من جميع الوجوه)). وحبذا لو ترجمنا كلمة المتساوين هنا ب (الأنداد) فهذا هو بالضبط ما يعنيه المعلم الأول، أنه لا يتحدث عن جميع الناس، وإنما هو يقصد فقط المواطنين اليونانيين الذكور، ممن لهم حق الاشتغال بالسياسة، فهؤلاء ينبغي ألا نفرق بينهم في المعاملة أو في الحقوق.. وهكذا يظل القول بأن المساواة فكرة حديثة، قولاً سليماً. والواقع أن المساواة في الأمور المادية سهلة ميسورة، فنحن نفهم معنى قولنا أن شيئين متساويان في الحجم أو الوزن أو الكثافة، أو قولنا أن رجلين متساويان في الطول أو الوزن. لكن ما إن نتحدث عن المساواة بين الموجودات البشرية حتى تبدأ المشكلات بالظهور. في الحقيقة، أن أسوء فهم للمساواة هو ذلك الذي جعل الناس جميعاً متساوين من (جميع الوجوه) وهو أقرب إلى ما يسمى في الفلسفة ((وضع الناس على سرير بوكرست)) بكل ما في هذه العبارة من تعسف وتصنع وافتعال وقتل للحقيقة. وبروكرست هو قاطع طريق في الميثولوجيا اليونانية اسمه الحقيقي بوليبيمون، كان يدعو الغرباء لزيارته في بيته، ثم يرغمهم على النوم في سريره الوحيد، فإن كانوا أطول قطع الزيادة، وإن كانوا أقصر شدّهم حتى الموت، وهو يقضي عليهم في الحالتين، لولعه الشديد بالمساواة التامة، المساواة من جميع الوجوه! لا، ليست المساواة على هذا النحو الساذج الفج وإنما هي تعني المساواة بينهم من ناحية أخرى، فهناك المساواة أمام القانون، المساواة السياسية، المساواة في الفرص، وهي بعض وجوه المساواة التي وجب تطبيقها في وقتنا الراهن. وفي ختام هذا البحث لابد من الإشارة إلى المشكلة الرئيسية التي تثار حول الديمقراطية يلخصها هذا السؤال: أيجوز تطبيق الديمقراطية في جميع المجتمعات بلا تفرقة أم أنها شكل خاص من أشكال الأنظمة السياسية يحتاج إلى مجتمع معين؟ هناك فلاسفة يرفضون إمكان التطبيق (العام) ويجعلون الديمقراطية (وقفا) على مجتمعات دون غيرها. فمونتسكيو يعتقد أن الحكومة الديمقراطية المعتدلة هي أصلح ما يكون للعالم المسيحي، أما الحكومة المستبدة هي أصلح ما يكون للعالم الإسلامي! وهو قول يكرر بصورة باهتة التعصب الأرسطي القديم، مع فارق واحد هو أن تعصب أوسطو كان ـ عرقيا ـ يعتمد على التفرقة بين الأجناس ويجعل الجنس اليوناني أرقى شعب، وأصلح للحكم الديمقراطي، ثم جاء مونتسكيو ليجعل التعصب هذة المرة دينيا، والحق أن هذا الافتراء لا معنى له فليس في الدين الإسلامي ما يمنع الديمقراطية التي تعد من أهداف الدعوة الإسلامية والتي جاءت صريحة في آيات الكتاب الكريم من خلال ذكر الحرية والعدالة والمساواة، فضلاً عن أن الإسلام يدعو المسلمين إلى التشاور، وإلى الحوار، واتخاذ القرارات بعد روية. ـ إلا أن هنالك فرق شاسع بين الديمقراطية والإسلام، فالديمقراطية مصطلح غربي يدعو إلى حكم الأغلبية من جماهير الشعب، أما الإسلام فيدعوا إلى مشاركة الشعب بأكمله في الحكم مع مراعاة الأقليات الموجودة في الدولة ـ . وهناك رأي جون ستيوارت مل الذي يدخل في نطاق ما أسماه بالمجتمعات المتخلفة ويعتبر الشعب نفسه لم يبلغ بعد سن الرشد، ثم ينتهي للأسف الشديد إلى أن أفضل نظام لمثل هذا الشعب هو استعباده بقوله: ((لا يجوز منح الحرية للدولة قبل أن يتهيأ الناس لها ..)). نجد في عبارة مل هذه مفارقة غريبة تشبه قول القائل: ((إن عليك أن تتوقف عن قيادة السيارة حتى تتعلم فن القيادة الصحيح))! في ظني أن المستعمر لن يجد حجة لاحتلال الشعوب المتخلفة أقوى من حجة مل بأن هذه الشعوب غير قادرة على أن تحكم نفسها بنفسها فهي قاصرة ولا تعرف مصلحتها وستؤذي نفسها، كما يفعل الطفل الصغير إذا تركت له الحرية ليمارسها قبل الأوان! ومن المشكلات الأساسية في النظام الديمقراطي الخوف من طغيان الأغلبية، وضياع حقوق الأقلية، والتحديد المستقر لحرية القلة التي لا توافق على رأي الأغلبية. ومهما يكن من شيء ـ فسوف تظل المشكلات التي تظهرها الممارسة الديمقراطية كثيرة، لكن يتوجب علينا مواجهتها، والتصدي لها. فإذا كانت الديانات قد أعطت الإنسان السيادة والسيطرة على بقية المخلوقات لأنه صورة الله، فإن الديمقراطية تحافظ على هذه الصورة، في حين تهبط به الأنظمة الاستبدادية المعادية للديمقراطية. بقي أن ننهي هذا البحث بأن نقول: إن المعيار الحقيقي لوجود الديمقراطية في مجتمع ما ليس وجود مجموعة من الأفكار الهامة والمبادئ الديمقراطية في دستور هذا المجتمع، وإنما هو ممارسة الناس الفعلية لهذه الأفكار والمبادئ والحقوق. فالديمقراطية في النهاية ممارسة.
|
| |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |