مقالات  

 

الديمقراطية بين أزمة النظرية وأزمة الأداء

عن صحيفة المدى

إذن هناك تـقـسيمان، الأول يمكن أن نسميه (تـقسيما موضوعيا للديمقراطية)، أولا على مستوى النظرية وثانيا على مستوى الأداء، والثاني يمكن تسميته بـ (التـقسيم المحمولي)، وذلك على صعيد القوى السياسية الإسلامية وعلى مستوى القوى السياسية العلمانية، أي بتـناول كلا من النظرية الديمقراطية والأداء الديمقراطي لدى كل منهما، مع ملاحظة في غاية الأهمية، و هي عدم جواز التعميم والإطلاق فيما نستـنتجه ونستـقرئه هنا، كما إني سأتجنب ذكر المصاديق بتسمية القوى التي استـقرأت من جراء مراقبتها ما أذهب إليه، حرصا على ألا تـفقد المفاهيم التي أقدمها، هنا، موضوعيتها من حيث هي مفاهيم، وإن كنت لن أترك الإشارة والتـلميح هنا أو هناك، من دون قصد بلمز أحد الأطراف بالاتهام.
الديمقراطية تبقى ـ من غير شك ـ القضية المركزية، التي بدون تحقـقها وتكامل مسيرتها و سيرها في المسار الصحيح لا يتحقـق شيء من كل التطلعات الوطنية من أمن واستـقرار ووحدة وطنية وسيادة واستـقلال وعدالة ورفاه وتـقدم وحقوق فيدرالية إلا تحقـقا منقوصا وقـلقا وغير مضمون المستـقبل.
والديمقراطية لا تـتحقـق من غير ديمقراطيـيـن. ومع أهمية وجود المثـقـفين الديمقراطيـين، فان المثـقف لا يمثـل مركز صناعة القرار والفعل السياسيـين، وإن كان له دوره الكبير في التأثير في كل من القرار والفعـل، إنما الذي يهمنا هو مدى وجود السياسي الديمقراطي، بقطع النظر عما إذا كان حاكما أو معارضا أو موافقا برلمانيا أو معارضا . فللسياسي تأثيره المباشر في مسار التحول الديمقراطي، بينما يـبقى تأثير المثـقف ـ مع بالغ أهميته ـ تأثيرا غير مباشر. ومع هذا، لا يجوز إغفال دور المثـقف، الذي لم يتأت له صنع الحاضر، فبإمكانه حتما صياغة المستـقبل. وإنا، في النهاية، أصنف نفسي على المثـقفين أكثر مما أصنفها على السياسيـين، على الرغم من مزاولتي للسياسة في الظرف الراهن أقول: الديمقراطي هو ليس من يمتـلك نظرية ديمقراطية من دون أن تـقـترن نظريته وفهمه النظري بالأداء الديمقراطي، كما أنه ليس من يمارس أداءً ديمقراطيا من غير أن يمتـلك رؤية نظرية واضحة في الديمقراطية كقاعدة فكرية يرتكز عليها أداؤه. الديمقراطي هو من يجمع بين النظرية والأداء الديمقراطيـين. هذا من دون أن يعني ذلك أننا يجب أن نسلخ صفة (الديمقراطية) كليا عمن يتوفر على أحد عنصري الديمقراطية؛ النظرية أو الأداء، دون الآخر، ولكن يحق لنا أن نقول أن ديمقراطيته تبقى من غير شك ديمقراطية منقوصة، وبالتالي ربما - وأقول ربما - تكون قـلقة غير مستـقرة وغير ثابتة الخطى، ولعله أيضا ـ نتيجة لذلك ـ باعثة على القـلق وسالبة للطمأنينة، مع أن بعض هذه الديمقراطيات القـلقة والمنقوصة يمكن أن تكون لها قابلية استكمال النقص والتحول من الصفة القلقة المقـلقة إلى الصفة المُطـْمَـئِنـَّة ، فتكون بعد حين من الممارسة والمران ديمقراطية مستـقرة وثابتة الخطى، وبدرجة أقـل مما كانت عليه في البدء من النقص، أو بتعبـير آخر: تكون قد قطعت شوطا أبعد على طريق التكامل والتـَّدَمْـقـْرُط.
كل مفهوم مجردٍ يكتسب قدرا أكبر من الوضوح عندما يجري طرح مصاديق له على أرض الواقع. وضرب المثـل هو نوع من أنواع التعريف. من هنا، كان بالإمكان تـناول مصاديق للمفاهيم موضع البحث في هذه المقالة، فيجري الحديث ـ مع بيان الشواهد ـ عن مدى ديمقراطية كل من فكر وأداء كل من الأطراف السياسية؛ بشكل إجمالي تارة، ثم بشكل تـفصيلي تارة أخرى، فنتـناول ذلك على صعيد القوى السياسية الكردية، ثم فيما يتعلق الأمر بالنسبة للشيعة، ومن ثم بالنسبة للسنة هذا من حيث المكونات القومية والمذهبـية، ثم يجري تـناول الإسلاميـين من سنة تارة ومن شيعة، من عرب ومن أكراد، من معتدلين ومتـشددين، ثم العلمانيـين من ليـبراليـين أو يساريـين، من سنة أو شيعة، من عرب أو كرد أو تركمان، من ديقراطيـين وقوميـين، من معتدلي العلمانية أو متـشدديها، وهكذا. ولكن لحساسية الموضوع، سأكتفي بتـناول إجمالي للتيارين الإسلامي والعلماني، وبدون ذكر المصاديق، وأيضا بدون قصد التعميم، هذا مع إلماحات إلى بعض المكونات الأساسية، مع إشارة إلى دور قوة الاحتلال أو التحرير (بحسب ما يراه ويصطلح عليه كل طرف) سلبا أو إيجابا في عملية الدَّمْـقـْرَطـَة في العراق.
لا تزال ثمة أزمة ثـقة بحقيقة ومدى ديمقراطية كل من القوى السياسية أو التيارات السياسية في العراق. بعض أزمة الثـقة هذه يملك بعض المبـررات، وبعضه مفتعَـل أو مهوَّل ومبالـَغ فيه، إما بسبب ثغرة في معرفة الآخر، أو بسبب الوقوع تحت طائلة التعميم بالقياس على المِثـْـل المذهبي أو القومي أو الإيديولوجي أو السياسي، أو قياسا على تجارب سابقة، أو من جراء الوقوع تحت طائلة ثـقافة الأحكام المسبقة، أو يكون الافتعال والتهويل افتعالا وتهويلا مغرضَيْن لغرض لدى المفتعِـل والمهوِّل والمبالِـغ في افتعاله للمخاوف أو تهويلها والمبالغة فيها.
في كل الأحوال، نجد أن من أسباب أزمة الثـقة هو وجود ثمة ثـغرة أو نقص، إما في التـنظير والفكر الديمقراطي لهذا أو ذاك الطرف، أو ثمة ثـغرة أو نقص في الأداء الديمقراطي لهذا أو ذاك الطرف.
إذا تـناولنا الموضوع على ضوء التـقسيم الثـنائي الإجمالي للمشهد السياسي، أي على ضوء ثـنائية الإسلامية والعلمانية، يمكن اكتـشاف الحقيقة الإجمالية التالية: الإسلاميون عموما - ولا أقول كلهم، ولكن ربما جلهم - يعانون من أزمة نظرية إسلامية للديمقراطية، مع إيماني القاطع بأن الإسلام نفسه لا يعاني مطلقا من أزمة في هذا المجال، بل هناك أزمة نظرية لدى مثـل هؤلاء من الإسلاميـين، ربما - وكمحاولة تحليل للظاهرة - بسبب أن التجربة السياسية الإسلامية التأريخية على مدى قرون من الزمن كانت أقرب إلى الاستبداد منها إلى الديمقراطية، من جراء ثـقافة احتكار الشرعية الدينية و احتكار الحق وثـقافة الإقصاء وإضفاء القداسة على الذات والدعوى الضمنية، لا المنطوقة، للعصمة، كل ذلك الذي تأسس ـ بحسب تقديري ـ على يد إسلام السلطة، الذي ابتعد مسافات عن إسلام القرآن والنبوة والخلافة الراشدة، والذي استعارته التـنظيمات الحزبـية الإسلامية التي ولدت في مطلع القرن السابق على أيدي المنتمين تأريخيا إلى مذاهب إسلام السلطة، ثم انـتـقـلت عدواها إلى حد كبير إلى التـنظيمات الحزبية الإسلامية التي يفترض أن ينتمي مؤسسوها وروادها تأريخيا إلى ما يمكن تسميته (مذهب إسلام المعارضة)، لتأثر هذه التـنظيمات الأخيرة بالتي سبقـتها زمنيا في التأسيـس، ثم ـ وبعد عبور مرحلة الاستـنساخ ومرحلة الصدمة العاطفية لاكتـشاف الهوية أو توهم اكتـشاف الهوية والبدء بمرحلة التعقلن والتحول إلى اكتـشاف الهوية الفعلية للإسلام العقلاني الإنساني المسالم المنفـتح غير الإكراهي وغير الإقصائي ـ لم يستطع الجميع التخلص والتحرر من تراكمات الثـقافة الموروثة. كل ذلك أدى إلى ظاهرة أزمة التـنظير الديمقراطي والفكر الإسلامي الديمقراطي. ولم تـقـتصر الأزمة على المتـشددين بل تعدتها إلى بعض المعتدلين. وهذا أدى إلى أن بعض الإسلاميـين بدأ ينظر بريـبة إلى الذين ينظـّرون إسلاميا للديمقراطية من المثـقفين والسياسيـين الإسلاميـين، متوهمين أنهم قد وقعوا في شراك الالتـقاطية الفكرية أو الانحراف الفكري وفقدان أصالة الهوية الإيديولوجية، بسبب توهمهم بأن الدعوة للديمقراطية تمثـل تخليا عن المشروع الإسلامي، تعبـيرا عن الخضوع تحت ضغوطات العامل الدولي والعلمنة وعن الوقوع في مرض عقدة استرضاء الآخر، أو إنها تمثـل حالة استهواء وانسحاق أمام الفكر الغربي والعلماني، أو حالة انبهار أمام الإنجاز الغربي، من دون التميـيـز بين ما يمثـل التـقدم في المدنية والتـقدم التكنولوجي وبين ما يمثـل بعدا حضاريا ثـقافيا لا بد لنا أن نـتغاير معه للحفاظ على أصالة الهوية، ظانين أن من لوازم الأصالة الانغلاق على تجارب وثـقافات الأمم غير المسلمة ورفضها كليا والاكتـفاء ـ ربما ـ بجواز استعارة الآليات، بعد إفراغها كليا من جوهرها وعمقها الثـقافي، غير ملتـفـتين إلى ما تـتمتع به الشريعة من مرونة في التعاطي مع آليات وحتى ثـقافات العصر ومتغيراته ومستجداته.
لكننا كما نستطيع أن نكتـشف أزمة التـنظير الديمقراطي عند جل الإسلاميـين، نرى معظمهم لا يعانون من أزمة الأداء، بل إن الأداء الديمقراطي للكثير منهم قد تجاوز ـ بحق ـ نظريتهم الديمقراطية بأشواط كبيرة جدا، بل أستطيع أن أقول إنهم، بأدائهم الديمقراطي، تجاوزوا بأشواط كبيرة جدا حتى أداء الكثير ممن لا يعاني من أزمة نظرية ديمقراطية من العلمانيـين. فالعلمانيون من يساريـين وليـبراليـين ـ وعلى عكس أكثر الإسلاميـين ـ لا يعانون من أزمة ثـقافة أو أزمة نظرية فيما يتبنونه من فكر ديمقراطي، لأنهم يملكون نظرية ديمقراطية جاهزة استعاروها من التجربة الديمقراطية الغربية العلمانية الرائدة، وهذا يعطيهم مبرر الادعاء أو الاعتـقاد بأنهم هم حملة لواء ورسالة الديمقراطية الحقيقيون لا الإسلاميون، باعتبار أن الديمقراطية عند أكثرهم هي توأم العلمانية الملازمة لها ووليدة التجربة الغربـية. لكن،كما استعار معظم علمانيـينا النظرية الديمقراطية من الغرب مما يجعلهم لا يعانون من أزمة نظرية ديمقراطية، فإن الكثير منهم، مثـلما هي الحال مع جل الإسلاميـين، ورث من الأنظمة الاستبدادية العلمانية الموالية للغرب في المنطقـتين العربـية والإسلامية بعضا من روح الاستبداد لتـلك الأنظمة.
فكما أن الكثير من الإسلاميـين يعانون من أزمة نظرية ديمقراطية في الوقت الذي لا يعانون فيه من أزمة أداء ديمقراطي، نجد أن الكثير من العلمانيـين يعانون من أزمة أداء ديمقراطي، في الوقت الذي لا يعانون فيه من أزمة نظرية ديمقراطية، وكما أن الكثير من الإسلاميـين لم يتحرروا من الإرث الثـقافي على مستوى النظرية لإسلام السلطة، لم يتحرر الكثير من العلمانيـين من الإرث الثـقافي لعلمانية السلطات المستبدة في المنطقة على مستوى الأداء.
سينفي بعض العلمانيـين صفة (العلمانية) عن تلك الأنظمة المستبدة، لاعتبارهم الديمقراطية من لوازم العلمانية، ومثـلهم سينفي بعض الإسلاميـين صفة (الإسلامية) عن الأنظمة المستبدة، لتعارض الإسلام مع الاستبداد.
هناك، إذن، ازدواجية نجدها لدى كل من الطرفين. والازدواجية تمثـل، في كل الأحوال، خللا وخطأ و خطرا، ربما. ويـبقى الكلام عن أي الازدواجيتين تمثـل خطرا أكبر على مشروع عملية التحول الديمقراطي.
كنت قد كتبت، في وقت سابق، عن أولويات بعض القوى والتيارات السياسية العراقية، وذكرت أن الديمقراطية لا تـقف على قمة سلم الأولويات عند هذا البعض، فهناك من يجعل العلمانية على قمة سلم أولوياته، وهناك من تكون عنده الفيدرالية على قمة السلم، وآخرون يجعلون الإسلامية على قمتها، وغيرهم الليـبرالية الغربية، وآخرون يجعلون طرد قوى الاحتـلال، أو بتعبـير آخر: استكمال السيادة الوطنية أو الاستغناء عن تواجد القوات الأجنبـية على قمة سلم أولوياتهم. لا أقصد من هذا أن المطلوب من كل القوى أو التيارات المعنية أن تـتراجع عندهم أولويتهم الأولى إلى مرتبة ثانوية، بل الذي أقصده أن البعض عندما يؤخر الديمقراطية مرتبة في سلم أولوياته عن هدفه المركزي الاستراتيجي مما ذكر، يستبطن استعدادا نفسيا في حال التـزاحم بين الخيارين، أي بين أولويته الأساسية وبين الديمقراطية، في أن يجعل الديمقراطية هي التي تـقدم قربانا على مذبح الفيدرالية مثلا، أو على مذبح العلمانية، أو الإسلام، أو الليـبرالية، أو الاستـقلال والسيادة، وهذا كله لا يعني وجوب قلب العملية بالتضحية بالأوليات التي ذكرت، فتذبح على سبيل المثال (الفيدرالية) الطموح الأكبر لبعض المكونات، أو يذبح (الإسلام) الذي يمثـل هوية وعقيدة غالبـية الشعب، أو تذبح الحريات، أو تذبح السيادة الوطنية قربانا على مذبح الديمقراطية، بل يجب وعي حقيقة أن (الفيدرالية)، مثلا، بلا ديمقراطية تبقى فيدرالية منقوصة عرجاء، وإنما وجدت الفيدرالية ليس فـقط لضمان حقوق الأقـليات، بل لتكون في خدمة الديمقراطية ومكملة لها. فإذا كانت الديمقراطية تعني ـ فيما تعني ـ احترام رأي الأكثرية وصيانة حقوق الأقـليات، فالفيدرالية هي في طليعة شرائط ضمان حقوق الأقليات، ولكن أن يعيش دعاة الفيدرالية حالة من الازدواجية، فيؤكدوا هدف الفيدرالية في مناطقهم، ولو على حساب الديمقراطية محليا أي على صعيد الإقليم الفيدرالي، أو وطنيا أي على صعيد الدولة الاتحادية، ثم يطالبوا بديمقراطية في المركز تكاد تكون مثالية يوجبون عليها أن تعطي للأقليات أكثر بكثير من استحقاقات الانتخابات، فإنهم بذلك يعطلون إلى حد ما أساسا مهما من أسس الديمقراطية، وهو القبول بحكم الأكثرية، ولا أعني هنا الأكثرية المكوناتية،بل الأكثرية السياسية، فهذا هو غير المقبول ديمقراطيا ووطنيا، ولا أعترض على التوافقية من حيث هي ضرورة من ضرورات المرحلة لا استراتيجية ثابتة.
وأما الإسلام ـ مثالا ثانيا ـ بلا ديمقراطية، فهو هراء، ليس ديمقراطيا حسب، بل حتى إسلاميا. فإننا إذا ما افترضنا أن الديمقراطية والإسلام يقعان من بعضهما البعض على نحو التـقابل بمستوى المغايرة لبعضهما البعض، فنـقيض الديمقراطية ـ الذي هو الاستبداد ـ يقع على طرف التـناقض من الإسلام، وبالتالي، فإن بالإمكان أن يتعايش المتغايران، ولكن النقيضين لا يمكن أن يتعايشا، فهما ـ على حد تعبـير المناطقة ـ لا يجتمعان ولا يرتـفعان. وإذا كان الاستبداد والإسلام قد تعايشا في بعض مفاصل التأريخ، فإن ذلك الإسلام الذي استطاع أن يتعايش مع الاستبداد، أو يقوم عليه، إنما هو نقيض نفسه، وبالتالي، لم يكن إسلام القرآن والسنة النبوية والخلافة الراشدة، فالاستبداد معول من معاول هدم صرح الإسلام.
والعلمانية ـ مثالا ثالثا ـ بلا ديمقراطية قد شهدناها في أنظمة الاستبداد الموالية للغرب في مرحلة ما كان يسمى (الاستعمار) أو السياسة الاستعمارية الغربـية في المنطقة العربـية والإسلامية طوال القرن الماضي، و قد عانت منها الشعوب ما عانت، وما زال معظم تلك الأنظمة قائما إلى يومنا هذا. وهذا النوع من العلمانية مرفوض من العلمانيـين أنفسهم قبل أن يكون مرفوضا من غيرهم، فالعلمانيون أنفسهم هم من ضحايا الاستبداد العلماني.
لقد قامت العلمانية التركية، لعقود طويلة، بتـقديم أولوية العلمانية. و هذه العلمانية متطرفة معادية للدين، مستبدة، و هي ليست العلمانية العقلانية المعتدلة التي لا تـقوم على أساس الدين ولكنها لا تعاديه ولا تحاربه. لقد ضربت العلمانية التركية أسس الديمقراطية بآلة المؤسسة العسكرية (حامية العلمانية التركية) بحجة حماية الثابت الدستوري للدولة التركية، أي العلمانية، وذلك على ضوء الأسس التي وضعها كمال أتاتورك. وبعض العلمانيـين ما زالوا يفكرون بطريقة إضفاء القداسة على العلمانية؛ تلك القداسة التي تبرر لهم هدم أركان الديمقراطية، إذا مثـلت الديمقراطية تهديدا لعلمانيتهم. ومثـل هؤلاء يمكن نعتهم بـ (الأصوليـين العلمانيـين)، و هم على غرار الأصوليين الإسلاميين.
والليـبرالية ـ مثالا رابعا ـ بلا ديمقراطية هي الأخرى ضرب من الهراء. وقد يسأل القارئ: هل يمكن أن تكون هناك ليـبرالية بلا ديمقراطية، في الوقت الذي لا تعني الليـبرالية إلا الحرية بأوسع ما تكون عليه؟ فأقول: إن هناك من الليـبراليـين الذين يجعلون هدفهم إطلاق الحريات الشخصية في جانبها الاجتماعي فوق كل الأولويات، أي حتى لو كان ذلك على حساب الحريات السياسية التي هي من لوازم الديمقراطية، بحيث أنهم مستعدون، ولو من الناحية النفسية، إذا ما أتيحت لهم الفرصة أن يفرضوا فهمهم لليـبرالية بالأساليب المناقضة للديمقراطية.
وأخيرا، السيادة الوطنية ـ مثالا خامسا ـ بلا ديمقراطية هي الأخرى هدم للمشروع الوطني. وقبل أن يساء فهمي أو يؤوّل قولي، و لاسيما من قبل دعاة مقاومة الاحتلال، فيعدوون قولي هذا ترويجا لفكرة القبول بالاحتلال خدمة للديمقراطية، وبالذات للديمقراطية التي جاء بها الاحتلال ـ على نحو ما يروجون ـ أقول: ليس هذا الذي أعنيه، بل أعني أن هناك من دعاة المقاومة والتحرير من يسره أن يرى عراقا مستـقلا استـقلالا تاما وخاليا كليا من آثار الاحتلال ومتمتعا بالسيادة الوطنية غير المنـقوصة، وهذا على أي حال هدف كل وطني يحب الوطن أو هكذا يفترض أن يكون. إلا أن هؤلاء يريدون أن يروا مثـل هذا العراق المستـقل ذا السيادة ولو في ظل الاستبداد على يد من يعدونه حاكما وطنيا. وهذا النوع من التـفكير يمثـل مدرسة وثـقافة منتـشرة بشكل واسع في الفكر العروبي والفكر الإسلامي السلفي أو الأصولي، فهم يقاتـلون الاحتلال حتى لو كان احتلالا موقـتا زائلا، وحتى لو كان الاحتلال يريد مساعدة الشعب على بناء صرح الديمقراطية ويساعد على إعادة إعمار البلد، و حتى لو كان إنهاء الاحتلال ممكنا بالسبل السلمية للنضال السياسي. وفي مقاتـلتهم للاحتلال تراهم مستعدين أن يذبحوا المشروع الديمقراطي من الوريد إلى الوريد، فيحقـقوا التحرر من قوى الخارج، ويقدموا قربانا لهذا التحرر الحرية الداخلية لشعبهم، فيكبلونه بقيود وسلاسل الشعارات الوطنية الثورية أو العروبوية أو الإسلاموية المتطرفة، التي لا أمل للخلاص منها كما كان الأمل في إنهاء الاحتلال ولو بعد حين.
إننا نحتاج إلى ثـقافة تـقديم الديمقراطية على غيرها من الأولويات الوطنية، وبالتالي، ستكون الديمقراطية في خدمة السيادة الوطنية، وفي خدمة الفيدرالية بالنسبة للفيدراليـين، وفي خدمة الإسلام بالنسبة للإسلاميـين، وفي خدمة العلمانية بالنسبة للعلمانيـين، وأنا - كإسلامي وكديمقراطي - ألتـقي مع العلمانية على مساحة مشتركة واسعة، وفي خدمة الليـبرالية بالنسبة لليـبراليـين، وأنا من أشد أنصار الحرية، ولكني أراها حرية مسؤولة تـتحقق بالتثـقيف عليها لا بالإكراه.
ولو سمحت الأجواء لذكرت شواهد وأمثـلة على ما ذكرت، كي لا يكون الكلام تـنظيرا مجردا ومحلقا في فضاء المثالية والتجريد وبعيدا عن أرض الواقع، ولكن الفطن اللبيب يستطيع تطبيـق المفاهيم المطروحة على مصاديقها في أرض الواقع العراقي. ولكن هذا لا يعني، في حال الانطباق على هذا أو ذاك الطرف، إطلاق الحكم عليه أو تعميمه على كل أفراده ومفاصله، بل قد يكون الانطباق نسبيا، وبدرجة تـتفاوت بين هذا وذاك الطرف أو التيار أو المكون.
ويؤسفني أن أقول إن قوى الاحتلال،، التي هي عنصر مرفوض من كل وطني (أو قل "قوى التحرير" المقبولة لدى البعض إن شئت) كانت بمثابة صمام أمان أمام بعض مشاريع الاستبداد المختـزنة حتى في الأوساط الموالية لها والقريـبة منها، كما كانت صمام أمان أمام مشاريع الاستبداد لدى الأطراف التي هي أبعد مسافة عنها وأقل مقبولية منها وأشد رفضا لها.
ولكننا يجب أن نحث السير ونواصل المسعى لإيجاد صمامات أمان وطنية من داخلنا تمثـل حصانة للمشروع الديمقراطي، على مستوى النظرية وعلى مستوى الأداء. وأهم هذه ـ وقبل أي منها ـ جماهير الشعب، وثانيا المؤسسات الدستورية، ثم يحتاج مشروع التحول الديمقراطي لتوفير مستـلزمات نجاحه إلى أربعة أمور أساسية: ثـقافة ديمقراطية، و أخلاق ديمقراطية، و مران ديمقراطي، و إرادة ديمقراطية.

 

 

 

 

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com
 

87